في خريف عام 2000 وبالتحديد في الأول من شهر ديسمبر استلقى محمد على سريره وهو هايم في أحلامه ، لقد أكملت السادسة عشر وهذا يؤهلني لأن أصبح رجلاً فتياً ذا كلمة مسموعة في المنزل وخارجه ، يجب أن يهابني الناس بمجرد رؤيتهم أو سماعهم باسمي ، أريد أن أمتلك مركبة رياضية ولكن سني لا يسمح بذلك ولكن ليس ذلك مهماً فأمي لن تقصر وبدمعات مني سوف تجعلها تقنع أبي بشراء مركبة جديدة لي ، أوَ لست المدلل في هذا المنزل .
ومن ثم ذهب في نوم عميق لم يستيقظ إلا بتربيت أمه على خده بنعومة ولطف ، قم يا محمد فلقد حان وقت الغداء ، نظر إليها بعين شاحبة لا أريد ولا أشتهي شيئاً .
صعقت الأم وارتبكت واقتربت منه وتحسست جبهته ماذا بك يا عزيزي هل يؤلمك شيء.
أشاح بوجهه عن أمه وقال لا شيء .
أرجوك يا حبيبي محمد تحدث ماذا بك ؟
نظر إليها وقال : لماذا لا تكون لي مركبة خاصة أقودها ؟
ولكنك صغير قالت الأم .
لم يرد عليها إنما نظر إليها وعيناه تترقرق بالدموع.
كفى كفى يا حبيبي سوف اقنع أباك أن يشتري لك المركبة التي تريدها ولكن عدني أنك سوف تذهب معي لتناول الغداء الآن .
قال محمد : بعد أن تجهز للنهوض من سريره إنه أمر بسيط لقد انفتحت شهيتي للأكل .
علت الضحكات من محمد وأمه وهم يتوجهان إلى غرفة الطعام .
وفي الطرق سأل محمد أمه هل أنا رجل المنزل الآن ؟
الأم بكل تأكيد ومن غيرك فأخواتك الثلاث وان كبرنك سنا ولكنهن في النهاية نساء.
نظر محمد إلى الإمام بعد أن تنحنح ومشى يزهو بنفسه مردداً لقد أصبحت رجل المنزل .
(2)
انقلاب مروع لمركبة في الطريق السريع ذهب ضحيته محمد وصديقه وكان السبب الرئيسي لحدوث الحادث السرعة الزائدة والتجاوز بطريقة خطره ثم انحرافاً انقلبت على إثره المركبة عدت قلبات هشمت بها عظام محمد وصديقه .
أم محمد رمت بعد مراسم العزاء باللائمة على أبوه ، والأب كذلك رما باللائمة على الأم ، وزادت المشاكل بينهما .
أنا امرأة وأنت أعلم مني لماذا وافقت على طلبي شراء مركبة لمحمد ، ظلت الأم تردد ذلك .
والأب يرد : أقنعتني أنه أصبح رجلاً وصار أهلاً للمسؤولية .
كل منهما يرمي باللائمة على الآخر .
وتحول المنزل لحلبة قتال وتعودت الشرطة الانطلاق لمنزل أبو محمد لفض النزاع بينهما .
وصارت حياتهم جحيماً لا يطاق وجلسن البنات الثلاث في محل الجمهور ينظرون فقط لا تشجيع ولا إطراء ولا مساندة فلا يحق لهن الحديث لأنهن بنات !
وبعد سلسلة من النزاعات طلق أبو محمد زوجته وترك لها المنزل بعد أن سجله باسمها هي وتركها هي وبناتها ورحل في حال سبيله .
وما هي إلا مدة واقترنت الأم بزوج يصغرها بعشر سنوات من جنسية أخرى ورحلت معه لبلده بعد أن باعت كل ممتلكاتها ومنهن كان البيت الذي أعطاها أبو محمد .
ورحلن البنات أيضاً ولكن إلى منزل عمهم في المدينة المجاورة .
إنه الشتات والضياع في عالم الألغاز والأسئلة الحائرة الباحثة عن إجابات ، إنها الدمعات الحارقة في الليالي الباردة القارسة ، لقد تدمر كل شيء ، لقد انتهى كل شيء في لمح البصر ، كنا سعداء والآن أشقياء ، كنا أغنياء والآن فقراء ، كنا محبوبين والآن منبوذين في غرفة متواضعة بحمام بسيط ، غرفة نجلس ونأكل فيها وندرس ونتسامر فيها ونشكو ونبكي فيها ، فلا نستطيع الخروج فمنزل عمنا ممتلئ بالرجال ولهذا سوف يكتب علينا أن نسجن في تلك الغرفة .
جلسن بنتان من البنات يتحدثن وجلست إحداهن تكتب ما ذكر سالفاً في مذكراتها .
ابتسمت مها وقالت بسخرية ما رأيكن أن نشكو لحقوق الإنسان مما نعاني منه ؟
نظرت حنان والتي تصغر نوال بسنتين إنها فكرة جيدة !!
وظلت عذاري تنظر إليهن مبتسمة بعد أن أغلقت دفتر مذكراتها وضمت ركبتيها بيديها .
ما رأيكِ يا عذاري قالتا بصوت واحد .
زادت ابتساماتها إلى أن برقت أسنانها البيضاء وقالت : بصوت هادئ أظن أنه حان وقت النوم وأشعر وبشدة أن السهر أثر جداً على عقولكن .
ضحكن بصوت واحد وتوجهن للنوم .
(3)
زفت مها على حين غرة كما قالت حنان ، فلقد تقدم أحد الخطاب ووافق عمها دون تردد ودون مشاورتها ، وسارت مراسم الزفاف ببساطة ، ومها مبتسمة ولكنها غير سعيدة ومتأملة أن بيت الزوجية يكون أفضل .
لكن لا أمل فقبل الزفاف بأسبوع وصلتها أخبار مؤكدة أن زوجها يعاقر الخمر ويهيم فالعاهرات .
ابتسمت وهي تخبر أخواتها وللتين أخذن الموضوع بسخرية وبدأن بالتمثيل وبدأن جميعهن بإطلاق الضحكات .
وكما يقال شر البلية ما يضحك .
نامت البنات الثلاث ...
واستيقظن على أنين حزين وكأنه ناي يعزف مقطوعة النهاية ، انطلقت عذراي لتفتح المصباح وإذا بالصوت يصدر من مها .
ضلت حنان تنظر لظهر أختها المستلقية فوق سريرها البسيط الموضوع بقرب الجدار .
وعادت عذاري لسريرها وقعدت قعدتها التي تشتهر بها وهي ضم كلتا ركبتيها بيديها .
فمن منهن يستطيع تغيير الأوضاع ، واكتفين بإرسال رسائل الدمعات على صفحات الخد وبإصدار الأنات الحزينة المعزوفة بلحن الألم .
(4)
بعد مدة من الزمن وليست طويلة تزوجت حنان ، وبقيت عذاري وحيدة ، ولكنها بعد مدة قصيرة هربت من منزل عمها بعد محاولة إجبارها على الزواج من رجل في الستين من العمر وهي التي تبلغ من العمر أربع وعشرين عاماً ومن خريجات كلية الطب بتفوق .
هربت ليلاً بعدما خلد الجميع للنوم وحملت معها مبلغ كانت تجمعه من فتات الهبات التي تصل لها من أبوها والتي لم تره من ذو شهر مع انه يسكن في نفس المدينة بعد انتقال مقر عمله لها .
وقبل هروبها كتبت رسالة ( من هنا تبدأ حياتي سوف أبحث عن المتعة المفقودة فعذراً فأنا أعرف وبشدة أني لن أجدها لديكم إلى لا لقاء ) .
(5)
كان شتاء 2002 بارداً جداً وقارس ولقد اختارت الهروب في ليلة الاثنين لعلمها بنوم الجميع بوقت مبكر للنهوض بالغد للعمل لهذا لن تجد صعوبة في الهروب والابتعاد .
استقلت مركبة أجرة أخذتها للمدينة المجاورة والتي تبعد 150 كم ، وتوقفت أمام استراحة للشقق المفروشة الرخيصة ودخلت واستأجرت غرفة لمدة ثلاث أشهر .
وجلست أول ليلة وحيدة خائفة جائعة وهي تستمع لأصوات السكيرين والمعربدين في الممرات وفي الغرف المجاورة والتي كانت أصواتهم تخالط أصوات العاهرات الماجنات الرخيصات .
كم ارتعدت فرائصها لفكرة أن يقتحم أحد غرفتها بعدما يعلم أنها وحيدة فيها ، ولأن الشرطة لن تصل أبداً ولن تعلم بالأمر لأنه ولسبب واحد كل ما حولها شياطين الأنس تتجول فمن منهم فيه النخوة لنجدتها .. أين المفر ؟
بكت كثيراً إلى أن هدأ الوضع مع أذان الفجر والذي يطرد تلك الشياطين ويسكتهم ويحبسهم في كهوفهم القبيحة النتنة .
استمعت عذاري لصوت الأذان العذب وقامت بعدها تصلي ومن ثم استلقت لتنام فاليوم سوف تجعله يوم راحة لها وفترة نقاهة وغداً سوف تنطلق للبحث عن وظيفة محترمة تكسب منها قوت يومها وتنتشلها من براثن الفقر الجارحة .
نامت ورحلت في أحلامها وكأنها طفلة صغيرة احتضنت بيديها لعبتها ونامت ، طارت محلقة بأجنحة الأمل لعلا الغد يكون أفضل .
الهروب من الجحيم هو الحل فالانتظار فيه لا يزيد المرء غير احتراقاً وتعذيباً .
هربت نعم وأعلم أني سوف أصبح في نظرهم عاهرة وماجنة وسوف تقال عني الأقاويل ولكن أين الحل ؟
لا حل أبداً غير الهروب من الجحيم .
هذا ما كتبته عذاري في مذكراتها قبل أن تسلم نفسها للنوم كلمات كانت نوعاً ما غير متناسقة ولكنها عبرت عن ما بنفسها .
(6)
رن هاتف المكتب واستلمه العقيد غانم أبو عذاري ! ، والذي يعمل في مكافحة المخدرات لإدارة الشرطة .
السلام عليكم .. رد غانم .
لم يرد المتصل السلام ولم يرحب بل قال من غير مقدمات وبصوت يمزقه الصراخ ( لقد هربت ابنتك الوقحة عذاري من المنزل بالأمس ) .
صدم غانم وشل لسانه وتسمرت عيناها ينظر للأمام ولكنه بالأصل ينظر لصورة ابنته عذاري .
أقول ابنتك هربت ولقد بحثنا عنها في كل مكان ولم نجد لها أثراً .
وبصوت متقطع ومتأثر قال غانم : أخي هل أنت تعي ما تقول ؟
نعم يا غانم وهل تراني مجنوناً ؟
خير إن شاء الله سوف أبحث عنها إلى اللقاء ، أغلق غانم الهاتف الثابت في وجه أخيه والذي كان يعطيه الأوامر بقتلها وبتعذيبها عندما يجدها ، ورجع بكامل جسده على كرسيه الضخم وقال : لقد حان الوقت .
تقدم من جديد لمكتبه واتصل بقائده الأعلى وطلب منه إجازة إلى نهاية الأسبوع ووافق القائد دون تردد .
انطلق غانم بمركبته المرسيدس الفخمة لشقته والتي استأجرها بعد إعطاء منزله لزوجته السابقة لتغيير ملابسه .
(7)
استيقظت عذاري في الظهيرة وكانت تعتصر من الجوع وقررت الخروج وبما أن الجميع سوف يكون نائماً ولن يصحو أحداً منهم إلا في وقت متأخر من ذلك اليوم لهذا اطمأنت وخرجت بعد أن لبست عباءتها .
ذهبت تكتشف تلك المدينة الرائعة المطلة على البحر والمشهورة بمركزها التجارية الراقية والفخمة وبفعاليتها السياحية المميزة ، ولكنه ليس اكتشاف للبحث عن بضاعة أو فعالية اكتشاف للبحث عن مطعم مميز يرضي غرور جوعها .
استقلت مركبة أجرة وانطلقت لإحدى تلك المراكز وعند وصولها توجهت مباشرة إلى باحة المطاعم .
وبعد وجبة دسمة من مطعم إيطالي تكونت من الباستا الإيطالية الحارة ومشروب غازي منعش وسلطة السيزر الشهية ، ابتسمت عذاري وقالت في نفسها سوف ينفذ المال إن عشت بهذا الترف .
وقامت من بعدها وبعد أن حمدت الله عز وجل على إنعامه وتفضله عليها ، تتجول في أنحاء المركز وتوقفت كثيراً أمام المحلات النسائية تتمعن بأسى تلك المنتجات الجميلة وتتمنى لو أن بحوزتها المال الكافي للشراء ، كم ذلك مؤلم أن يكون أبواك أغنياء وأنت فقير معدم وحيد في عالم غريب .
وأمام محل لبيع النظارات الراقية والتي تحمل أفخم الماركات العالمية لفت انتباهها نظارة شمسية جميلة جداً جمعت بين اللون الذهبي الخفيف والذي تطرز بها حوافها الخارجية وبين اللون الوردي الهادي والذي طغى عليها بالكامل وبين عدستها السوداء ، ما أروعها وبدون وعي وجدت نفسها داخل المحل وكان وقتها فالمحل أحد المشترين والذي كان مشغولاً بتجريب بعض النظارات لوحده والبائع والذي استقبل عذاري بابتسامة ثقة أنها سوف تشتري وليس مجرد مرور ، توقفت عنده وسألت عن النظارة في الخارج .
قال البائع : الكل يسأل عنها .. وبدأ يشرح لها طريقة صناعتها وماركتها ومميزاتها وضمانها العالمي وبعد أن انتهى من شرحه الممل سألته عذاري بلطف : كم سعرها ؟
قال بلهجة ثابتة : ثلاث آلاف درهم .
ابتسمت بخجل وقالت :شكراً وفي نفسها تقول كل ما أملك هو مبلغ أربع آلاف درهم .
قال البائع وكأنه خسر صفقة : لا تريدينها !!
أجابت : في وقت آخر سوف آتي لأخذها .
تدخل المشتري وقال أعطها النظارة وسوف أحاسبك أنا عنها ونظر إليها بنظرة جعلتها تشعر بنواياه السيئة وإن كانت غير سيئة فما هذه الوقاحة وقلة الأدب لست شحاذة ولا عاهرة ولا فتاة ترتمي في أحظان من يشتري لها الهدايا لهذا لست رخيصة فأي كرم زائد يجعله يدفع كل ذلك المبلغ لامرأة لا يعرفها ولم يلتقي بها يوماً ما ، في زمن كثر فيه اللئام وقل بل وأحيان ينعدم فيه الكرام ليس هناك مجال إلا أنه من الصنف الأول فالكرام لا يتدخلون كما تدخل ذلك الوقح .
قالت بعد أن ارتسمت على شفتيها ابتسامة جادة : شكراً ولكني أستطيع شراءها الآن ولكني لا أريد !
ضحك بصوت خفيف سخيف : وقال اشتريها الآن إذاً إن استطعتِ وعاد ليجرب بعض النظارات .
إنه التحدي ما أوقحه وما أغباه سوف أقتله قهراً أعرف أني تسرعت جداً ولكن كنت أريد أن أخرس هذا الذكر .
قالت متوجه للبائع : أعطني إياها وأخرجت محفظتها ودفعت سعرها بالكامل وسط ذهول المشتري والذي كان يسترق النظر إليها .
لم تنظر ناحيته ولم تفكر فلماذا تشوه عيناها بالنظر لمثل هذا اللئيم شكرت البائع بعد استلام كيس جميل وضعت فيه النظارة ومن ثم خرجت وما أن اختفت عن أنظارهم إلا وضحكت بصوت مسموع وقالت في نفسها لقد أفلست .
وكانت هناك مجموعة من الفتيات المراهقات بقرب إحدى المحلات وجهن نظرهن إليها بعد سماعهن ضحكتها وبجرأة من إحداهن أأكد أنكِ اشتريتِ شيئاً مميز .
قالت عذاري : نعم تلك النظارة الوردية .
وبصوت واحد ارتفع صوت المراهقات: واو رائعة .
وانطلقت عذاري إلى حال سبيلها مبتسمة من الموقف الذي حصل لها ، وبعد جولة طويلة في المركز الضخم وكانت حينها الشمس تتأهب للرحيل قررت الذهاب لمسجد فيه قسم للنساء على شاطئ البحر والصلاة فيه صلاة المغرب ومن ثم الجلوس على شاطئ البحر .
وبعد انتهائها من الصلاة توجهت لأحدى المطاعم الموجودة بالقرب من المسجد واشترت بعض السندوتشات مع عصير الفراولة الطازج وانطلقت للجلوس على الشاطئ وتناول الطعام .
وبعد انتهائها من عشاءها ووضع القمامة في مكانها المخصص ، عادت وجلست مكانها ونظرت للأفق وقالت بهدوء ولكنه بصوت مسموع غداً سوف يكون أفضل .
ومن خلفها ارتفع صوت رجل يافع ثابت الخطى : من صغر سنكِ وأنتي تحبين البحر .
التفت مرعوبة وتتمنى أنه ليس الذي في بالها ولكنه هو بعينه إنه أباها تسمرت مكانها ولم تستطع الحراك بل ظلت تنظر إليه وهو يقترب .
أشار لها بأن لا تقوم وهي في قرارات نفسها تعلم أنه لا أمل للوقوف فلقد شلت من الخوف .
وصل إليها وجلس عن يمينها وضم ركبتيه بيديه كما تجلس ابنته ونظر للأفق وقال : غداً سوف يكون أفضل .
عادت لوضعيتها وهي تقول وبصوت هادئ : لا أعتقد ذلك !
وطال الصمت بينهما .
(8)
أحببت أمكِ من كل قلبي ولكن بعد سنتان من زواجنا مات ذلك الحب لأننا لم لم نسقيه وأهملناه وتراكمت حوله الحشائش الضارة وذبل وصارت حياتنا مجردة من كل شيء يعنيه ذلك الحب وصار الجامع بيننا عقد القران فقط .
لقد كرهت المنزل بما فيه وأيضاً أنتم وأعترف بها يا عذاري كرهتكم جميعاً لأنني كنت أشعر بأنني منبوذ بينكم فتصرفاتكم كانت تقتلني ، إن دخلت للمنزل ذهبتم لغرفكم وان جلست معكم لنتناول الطعام لا يحادثني أحد منكم غير أمكم ، وأنا أعلم أنها هي من علمتكم كل ذلك من مبدأ الاحترام ولكنه لم يكن احتراماً بلا تعذيباً لي وإهانة ، لم أستطع الانسجام معكم فطبيعة عملي القاسية وذلك الكم الهائل من المجرمين والقضايا جعلني شخص ثائر منعزل فلم استطع أن أتقرب وكنت بحاجة لمن يقربني إليكم ويجمعني بكم ، كنت أسمع نداءات قلوبكم وهي تنادي أحضنني يا أبي أنا بحاجة لك يا أبي ولكنني كنت حائراً أين المدخل أين الخلاص ، نظراتكم كانت تبكي قلبي وكنت أريد أن أصرخ أحبكم يا أطفالي هيا بنا نعود لعالمنا الأسري الرائع لكن لا أمل ، وأيضا أمكم لعبت الدور الأكبر في عدم الانسجام فبرودها وعدم مبالاتها في اندماجي بينكم وأنانيتها جعلتني لا أفكر إلا بنفسي أصبحت أنانياً ولكن ليس بكل ما تعنيه الكلمة ، فأنا أكدح وأخاطر بنفسي لملاحقة المجرمين لكي أنظف مجتمعي من تلك الشرذمة .
لست أنانياً يا عذاري قالها مترجياً أن تصدقه بعد أن التفت نحوها واغرورقت عيناه بالدمعات .. لست أنانياً .
ظلت عذاري تنظر إلى الأمام دون أن تلتفت إليه أو تتفوه بكلمة .
ثم عاد ونظر للأفق ، هل تعلمين أنني علمت مكانكِ بسهولة فاتصالاتي لم تتعدى الأربع اتصالات وأخبروني أنكِ نزلتِ في إحدى فنادق الشقق المفروشة في هذه المدينة ، وبهذا حددت وجهتي ، وبما أنني أعلم أنكِ تعشقين البحر وبالذات هذا المكان جئت مباشرة إلى هنا .. عذاري .
نعم يا أبي .
هل تذكرين أننا كنا نلعب في يوم من الأيام هنا .
لم تجب عذاري وأجهشت بالبكاء .. ما أروعها من ذكريات وما أحلاها من أيام .
نظرت إليه بعد مدة وهي تمسح دمعاتها نعم نعم يا أبي أتذكر كل ذلك .
هل تذكرين مكانها .
ضحكت عذاري وهي تنظر لعينين أباها بكل تأكيد قالتها مؤكدة إنها المحارات التي جمعناها جميعاً في ذلك اليوم ودفناه بالقرب من تلك الصخور .
إذاً لننظر هل سوف نجدها .
نعم يا أبي هيا .
قاما يتسابقان إلى أن وصلا لمجموعة من الصخور الكبيرة وحفروا هناك تحت إحداهن ووجدوا المحار .
أمسكتها عذاري بيدها وقالت هل لي يا أبي باحتضانك .
ودون أن يرد عليها ضمها إليه وقال أحبك يا عذاري يا أبنتي الغالية .
بكت عذاري بحرقة وهي تمسك بالمحارات بقوة في قبضة يدها اليمنى .
وطال الصمت وعذاري في أحظان أبوها وبقيت القلوب في الحديث مع بعضها .
(9)
استقلت عذاري مركبة أبوها وتوجهوا لفندق الشقق المفروشة لأخذ أغراض وحاجيات عذاري .
وطوال الطريق ظلا ساكتين إلى أن وصلا .
دخلت مع أبوها محتمية به من نظرات الفسقة في باحة الفندق وحينها استغل غانم نفوذه وأرهب مدير الفندق لإرجاع المبلغ كاملاً وخصم منه المدة التي بقيت فيها عذاري ، ومن ثم توجها للغرفة وحمل الأب جميع أغراضها وسارت بقربه عذاري كالأميرة المتباهية بشهامة الرجل الذي يسير بقربها ومن ثم سلم غانم المفتاح للاستقبال وانطلقوا لمدينتهم الأم .
وأيضاً كان الطريق للمدينة صامتاً ، لا حديث يذكر إلا عند الاستراحة وسؤال أباها لها ماذا تريدين ؟
ظل أب عذاري يفكر بتلك الطريقة التي تقبل بها هروب ابنته وكيف تجاوز أوامر أخوه بقتلها أو تعذيبها ، فلقد فضحت العائلة بفعلتها .
ماذا دهاني أأصمت وأتعامل معها بهذه الطريقة ، ولكنها طريقة ناجحة ولقد تقبلتني عذاري من جديد دون معارضة وبرحابة صدر .
قتال الأفكار ظل يصول ويجول في عقل غانم إلى أن وصلا للبناية التي تقع شقته فيها ، وهي عبارة عن مبنى مكون من ستة طوابق وفخم جداً وبه حراس للأمن ويقطن فيه غانم في الطابق الأخير .
ركبا المصعد ومن ثم دخلا لشقته وأراها غرفتها والتي لم تأثث بعد وقعد وضع فيها فراش أبيض مع لحاف ووسادة كل منهن أبيض اللون والتي كان قد جهزها أبوها عند عودته لتبديل ملابسه لعلمه التام وثقته أنه سوف يجدها قال : نامي اليوم هنا وغداً سوف نذهب لشراء الأثاث الذي ترغبين به ، تصبحين على خير قالها بعد أن طبع قبلة شفافة ورقيقة على رأسها ورحل .
جلست عذاري على الفراش وأخرجت من أمتعتها دفتر مذكراتها وبدأت تخط ما حدث اليوم بخط جميل جداً وجاهدت لجعله مميزاً فاليوم يوم رائع ومميز وجميل وفيه أحداث خيالية مفرحة .
كم هي الحياة غريبة في بداية اليوم كنت خائفة مرتعبة ، ومن ثم مفلسة وليس بحوزتي غير القليل من المال وكنت سوف أهلك إن لم أجد عملاً بأقصى سرعة ثم أبي يظهر فجأة في نهاية اليوم وبطيبة وتقبل راقي أرجعني إليه وإلى الأمان ، كم هي غريبة هذه الحياة ......
ظلت عذاري تدون في مذكراتها إلى أن غلبها النعاس وقامت وأقفلت المصابيح واستلقت ، ولا مجال للأحلام فلقد ذهبت في نوم عميق أول ما وضعت رأسها على الوسادة .
(10)
صراخ عم المكان في الصباح الباكر ، إهانات جارحة ، وسباب لاذع ، فتحت عذاري الباب قليلاً دون أن يراها أحد لتنظر ما هنالك ، رأت وقتها عمها يكيل السباب والشتائم لأباها وينعته بالديوث وبالحقير ، وكيف يرضى بكل ما فعلته أبنته ويظل صامتاً والأعظم أنه أحظرها معه إلى شقته .
وأبو عذاري صامتاً لا يتحدث وينظر لمحل أقدام أخاه .
أغلقت الباب عذاري برفق لكي لا يشعرا بها وقلبها يكاد ينخلع من صدرها من الخوف ، ماذا سوف يحدث ؟
وظلت تستمع وكانت تذهب بها الأفكار ، إن عمي صاحب كلمة قوية ومسموعة وصاحب فصاحة لغوية كبيرة ويستطيع أن يثير النعرة الجاهلية في أبي وربما يأتي وينحرني كما تنحر الشاة أو يضربني ضرباً مبرحاً يجعلني طريحة الفراش لمدة شهر كامل .
زاد الصوت حدة والأب صامت لا يتحدث .
وإذا بصرخة تدوي في المحيط ، كفى كفى كفى وتبعتها لطمه قوية ، فتحت على أثرها عذاري الباب دون وعي ووقفت تنظر ، وإذا بعمها ملقى على الأرض ينظر لأباها وهو يرتعد من الخوف .
أخرج .. قالها غانم بصوت حاد ، جمع العم ما سقط من حاجياته وولى هارباً .
نظر غانم لعذاري وكانت لاتزال العصبية واضحة على وجهه ، ارتعدت عذاري ، وما هي إلا ثواني إلا وتحولت تلك العصبية لابتسامة هادئة جداً ورائعة ارتاحت على إثرها وهدأت روحها .
هل استيقظتِ يا ابنتي الغالية ؟
لم تجب عذاري غير بابتسامة .
ذهب غانم ليغلق باب الشقة والذي تركه العم مفتوحاً وثم عاد متوجهاً لابنته .
وبعد أن احتضنها قال : لقد جهزت لك الطعام والذي صنعته بيدي نوعاً ما .
وهل تطبخ يا أبي
نعم نعم تستطيعين أن تقولي ذلك فمعظم ما وضعته لكِ كان من المعلبات . ضحك الأب بعد أن أنهى جملته .
هيا لنجربه ومن اليوم أنا التي سوف يطبخ .
جميل جداً فسوف تستريح معدتي من أكل المطاعم وسوف أعد قائمة الطعام التي أريد .
ضحكا وهما يتوجهان إلى غرفة الطعام والتي جهزها غانم ، وكان الإفطار عبارة عن بيض مغلي على الزيت وحبات زيتون وجبن وشاهي بالحليب وقطعتان من سندوتش الزعتر والذي أحضره من المخبز وكيس به خبز أسمر .
تناولا الطعام بصمت فلا زالا غير منسجمان أو بالأحرى في الطريق للانسجام .
ما أصعب الحياة وأنت ترى أبنتك أمامك ولكنك لا تعرف كيف تتواصل معها أو تحاورها , أو حتى تستمع إليها ، والذي يزيد الأمور تعقيداً عندما تكون تلك البنت صامتة .
كم أحبكِ يا عذاري وأريدك أفضل وأريد أن أكون أباً رائعاً لكِ . ظل الأب سارحاً في أفكاره بينما كانا يتناولا طعام الإفطار .
(11)
وفي المساء استلقت عذاري على فراشها بعد عودتهم من محل لبيع الأثاث وأعجبها طقم غرفة نوم رائع غلب عليه الطابع الغربي الهادئ واللون الوردي مع الأبيض واختارته وقام أباها وأنهى الإجراءات وسوف يتم استلامه بعد ثلاث أيام .
وأطالت عذاري المكوث في الفراش وشعرت بأنها ليست على طبيعتها وأن الدنيا تدور بها ، تريد أن تصرخ لكن لا تستطيع وذهبت في غيبوبة .
دخل غانم غرفتها ونادى عليها ولكنها لم تجب ، اقترب منها أكثر وربت على خدها لتقوم : عذاري انهضي قليلاً أريدك في أمر مهم جداً !
لكنها لا تجيب ، قاس نبضاتها ووجدها غير منتظمة وتنفسها ليس طبيعياً زاد ذلك من روعه ، وانطلق لهاتفه ليتصل بالإسعاف والتي حضرت في دقائق معدودة .
وتم معاينتها في غرفتها وتم قياس ضغطها ونبضاتها ولكن كل منهن لم يبشر بخير فلهذا قرروا نقلها للمستشفى .
ركب غانم بالقرب من عذاري وظل طوال الوقت يمسك بورقة بكلتا يديه ويبكي بحرقة .
لقد أتيت لأقول لها هل وجدتِ الآن المتعة المفقودة ، وهذه الورقة التي كتبتيها وقت هروبك من منزل أخي سوف أعطيكِ إياها لكي تغييرها وتكتبي لقد وجدت المتعة المفقودة ولكنك الآن مسجاة أمامي بلا حراك .
وصلت مركبة الإسعاف للمستشفى وهرع الطاقم الطبي لها وحملوا عذاري فوق سرير متحرك لغرفة العناية المركزة .
لا أمل لأن الأمل يحتضر .
ودوماً نحن هكذا لا نعرف قيمة بعضنا إلا عندما نراهم يتألمون أو نفقدهم من على الوجود .. لماذا ؟
جلس غانم في الردهة المقابلة للغرفة التي تعالج فيها عذاري وحيداً محطماً .
خرج الطبيب بعد مدة وطار إليه غانم يا طبيب ماذا في ابنتي ؟
قال الطبيب : إنها تعاني من فقر دم خطير جداً وبحاجة لنقل دم الآن وبالسرعة العاجلة والحمد لله أن نوعية دمها ليست بالنادرة وموجودة في مختبر المستشفى ولقد اتصلت بهم وما هي إلا دقائق إلا وسيري في عروقها اطمئن يا سعادة العقيد غانم ابنتك في أعيننا .
ابتسم غانم ابتسامة مرهقة : وهل لي أن أراها ؟
تفضل لكن لا تطيل البقاء عندها .
إن شاء الله وشكراً على جهودك يا دكتور .
ابتسم الطبيب ورحل .
دخل غانم ببطء ينظر لعذاري والتي نامت بين تلك الأجهزة المزعجة كالأميرة ، وضع يده اليمنى على جبتها وظل يتحسس وجهها بلطف ورقة ، ومرت خمس دقائق سريعة ولم يشعر الأب إلا بدخول أعضاء المختبر تتقدمهم عربة مخصصة لنقل أكياس الدم وفيها مجموعة من تلك الأكياس .
أمروا غانم أن يخرج .
ابتسم لهم وشكرهم وأوصاهم بابنته ومن ثم خرج وعاد لمكانه في الردهة وحيداً .
(12)
جلس بالقرب من غانم في ردهة المستشفى رجل يعرفه جيداً .
ولم يسلم ولم يستأذن إنما بادره بالسؤال بعد أن أسند كامل ظهره على المقعد .
لماذا أنت هنا يا غانم ؟
ابنتي ... إجابة مختصرة .
أرى أنك منهار جداً وهو كذلك الأبناء ما أن يصاب أحدهم بمكروه إلا وتنقلب الدنيا علينا رأساً على عقب وننسى الدنيا بما فيها ونجلس هنا ننتظر الفرج والخبر المفرح بسلامتهم ، أليسوا هم منا ؟ قالها جملته الأخيرة بتعجب بعد أن نظر إلى غانم والذي ظل ينظر لأرضية الردهة .
لم يجب عليه غانم !
هل ترغب باحتساء كوباً من القهوة معي في كافتيريا المستشفى لعله يهدأ أعصابك قليلاً ، أم أنك تخاف على سمعتك إذا قعدت مع مروج للمخدرات سابقاً .. قالها باستهجان واضح .
تجاهل غانم ما يقوله الرجل وسأله : ماذا تفعل هنا ؟
الذي تفعله أنت يا غانم أأدي واجبي اتجاه ابني ذو الثلاث أعوام المسجى في العناية المركزة من أثر تناوله كمية كبيرة من الصابون السائل ، نعم إنه إهمال ولكن ما الفائدة الآن من معرفة السبب .
لم يرد عليه غانم وظل على حاله ينظر إلى أرضية الردهة ويضع كفيه على خديه ومستنداً بأكواعه على فخذيه .
هل سوف تذهب معي ؟ .. أعاد سؤاله
لا شكراً قالها غانم بعد أن نظر للرجل وبابتسامة هادئة تعبر عن امتنانه وشكره على دعوته ولكنه لا يستطيع فراق عذاري وان يكون عنها بعيداً يكفي سنوات البعد الفائتة .
براحتك يا عزيزي غانم إلى اللقاء .
ظل عقرب الساعة يلدغ غانم في كل نبضة من نبضاته والخوف يملئ محيطه والترقب واللهفة جعلته بلا عقل ولا قلب يفكر إلا بتلك الفتاة النائمة في غرفة العناية المركزة .
ولكن الأمل هو الذي يبقيه في مكانه ويحفظه قليلاً من الجنون .
(13)
شفيت عذاري سريعاً وعادت لشقة أبوها والذي بدوره وجد لها وظيفة في مركز طبي حكومي بالقرب من شقته وبدأت العمل بعد شهر من شفاءها .
وانشغلت جداً في عملها والذي أحبته من كل قلبها والذي سوف تتحقق فيها أمنيتها وهي خدمة المجتمع والسهر على راحتهم أهداف نبيلة تحملها من نعومة أظفارها .
ما أروعها من أيام مرت عليها في ذلك المركز الطبي ، وكم طارت من الفرحة عندما استلمت أو راتب لها ، ظلت ذلك اليوم تغرد كعصفور الكناري فرحاً وطرباً ، وظل أباها سعيداً فرحاً ينظر إليها بينما كانت تريه راتبها وتحسبه أمامه وتخبره بما سوف تفعل و و و ... ما أروعها من لحظات دافئة رائعة .
مر على تعينها عدة أشهر مرت سريعة ، وفي بداية خريف سنة 2001 رحل أباها بحادث اصطدام بعمود إنارة أثناء ملاحقة أحد تجار المخدرات ولم تمهله الصدمة وقتاً فلقد توفي في مكان الحادث واحترقت مركبته بعد إخراجه منها بثواني معدودة .
وتساقطت الورقات من على الأشجار وتلقت الخبر عذاري كالصاعقة وذبلت الوردات اليانعة فجأة أمامها وأظلمت الحياة وصارت لا ترى شيئاً غير زوجة عمها والتي أخبرتها بالخبر وأمرتها أن تحمل أغراضها للذهاب لبيت عمها .
بكت كثراً ، فلقد رحل سندها وعونها لقد رحل قبل أن يرجع لها الذي حرمها منه بالسابق كان لازال يسد الدين ولكنه لم يوفيه فلقد كان الموت أسرع ، سامحته من كل قلبها ودعت له كثيراً في كل صلاة وفي كل لحظة ، لقد تعرفت عليه قليلاً ووجدته شيئاً مغاير لما عرفته عنه سابقاً ، وجدته قلب كبير دافئ الأركان .
لقد رحل قبل أن توقع على الورقة وتثبت أنها وجدت المتعة المفقودة ، فلقد أخفى أبوها موضوع الورقة إلى بعد سنة أو سنتان لكي يظهرها من جديد لها لتوقع ولكن لا أمل فلقد رحل .
إنها الآلام المدمرة في وقت صار يرش الملح على الجراح .
عادت لتلك الغرفة في منزل عمها ولكنها عادت وحيدة ، عادت إلى القيود ، وإلى التعاسة .
وبعد وفاة أبوها بأسبوع دخل عليها عمها ليملي عليها القائمة من جديد ، لا عمل ، لا سواقة للمركبة ، ولا خروج من المنزل ، وأخيراً وبعد أن انتهى من قائمته تهلل وجهه وقال : سوف أزوجكِ لا تخافي لن تظلي وحيدة طويلاً سوف أسترك ففرحي .
لم ترد عليه بل ظلت صامتة ومن ثم انفجرت باكية عندما خرج وأغلق الباب .
(14)
كانت حصة عذاري من ورثة أبوها أربع ملايين وثلاث بنايات مكونة من ثلاث طوابق ، ثروة كبيرة لكنها لم تهتم بها ولم تفرح بدخول كل ذلك تحت أملاكها الخاصة ، فما فائدة كل ذلك لقلب منهك محطم تدمر بين الحزن والهم والخوف .
تدهورت حالت عذاري جداً ونحل جسدها كثيراً وانتفخت عينيها من البكاء واسود محيطها من السهر .
لا مجال للهروب فذلك الكلب الشرس الذي وضعه عمها في فناء المنزل سوف يجعلها وجبة دسمة إن رآها تتسلل للهروب ، لهذا سلمت أمرها وبقيت مكانها .
وفي ذلك اليوم كانت تجلس في مجلس النساء الخاص بمنزل عمها مع بنات عمها واللواتي يصغرنها سناً بكثير ودخل وقتها عمها واستدعاها .
وما أن اختلى بها قال : أخيرك بين ثلاثة عمر والذي يبلغ من العمر ستون عاماً والعمر ليس شيئاً يعيب الرجل فهو يملك مؤسسة لتجارة الإسمنت وصاحب أموال طائلة لا تعد ولا تحسب أو ابن عمك سالم صحيح أنه متوسط الحال ولكنه رجل صاحب سمعة طيبة أو ابن الجيران والذي أراه غير مناسب ولكن أمه أزعجتني لهذا وضعت اسمه في القائمة فهؤلاء ليسوا جديرين أن نناسبهم .
قالت : دعني أفكر عدة أيام .
قال : لا قرري الآن .
ابتسمت ساخرة : ما أسرع الحياة عندك يا عمي ، اختار سالم .. قالتها بلهجة ساخرة ساخطة .
مبارك يا عذاري سوف نعقد القران يوم الخميس وسوف تمر عليك زوجتي لتخبريها باحتياجاتكِ لتحظرها لكِ فأنتِ لا زلتِ تحت المنع من الخروج .. ومن ثم رحل .
ضحكت عذاري بسخط وقالت : يا غبي .
فتح الباب وقال نعم هل قلتي غبي !!
صعقت عذاري ووضعت كفها على فمها وولت بالهروب لغرفتها وما أن وصلت لغرفتها وتأكدت أن عمها لا يتبعها انفجرت ضاحكة وما هي إلا لحظات إلا وأجهشت بالبكاء .
سالم ذلك الفتى الطائش والذي يقضي وقته في سباق المركبات وإزعاج السكان بهدير مركبته المزعج وبالبحث عن الأولاد الصغار والذين هم في سن المراهقة ، فهو شاذ جنسياً وفكرياً ، وهو بنظر عمها رجل لأن الناس تهابه وتحسب له ألف حساب بسبب صراعاته الدائمة معهم وعدم احترامه لأي شخص يقف أمامه أو يفكر بذلك ، فهذه الرجولة في نظره أن تكون قوياً تصرع الجميع دون النظر هل يفعل ذلك بالحق أم بالباطل ؟ ، ولكنه أفضل الخيارات المطروحة لها فالعجوز سكير عربيد وابن جارهم وان كان مستقيماً ومحترماً وباراً بوالديه لكنها وصلت الرسالة بأنه غير مرغوب به ولا مجال لاختياره .
لعلي أستطيع إصلاح سالم وهدايته للدرب الصحيح وسوف أحاول دام أن لا خيار لي غير الارتباط به ، وبما أنه يصغرني بثلاث سنوات وأنا أحمل كماً هائلاً من الثقافة فلعلي أستطيع تغييره .
انتهت عذاري من كتابة مذكراتها واستلقت للنوم بعد إغلاق المصابيح ، ومع أن الوقت مبكر للنوم لكن لا مجال للعودة للواقع فعالم الأحلام أروع وأجمل .
(15)
مرت الأيام سريعة وتزوجت عذاري سالم والذي أثث لها قسم كامل في منزل أبوه وكان عبارة عن مجلس وغرفة نوم وغرفة طعام ومطبخ وثلاث حمامات ، قسم كبير ومميز لفتاة حديثة الزواج ، ووضع فيه من أرقى الديكورات والأثاث عن طريق مساعدات من أبوه وأعمامه وإخوانه وقرض من بنك ربوي .
بدأت حياتهم هادئة ، يذهب للعمل في الصباح ويعود بعد الظهر بقليل وينام القيلولة والتي تنتهي بعد العصر ولا يوجد في أعماله كلمة صلاة فهي شيء لا وجود له في حياته ومن ثم يجلس معها إلى أن يحين وقت صلاة العشاء ومن ثم يخرج عند أصدقائه وفي بداية الأمر كان يعود في الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً في أول شهرين من الزواج أما بعدها صار يعود في الثانية أو الثالثة صباحاً .
طبعاً منعها من العمل لأنه يرى في عملها أنه ليس بالرجولة أن تعمل زوجته !!
لا جديد في حياتها غير ما يطرحه التلفاز ، وفي بداية الزواج كان هناك حاسب آلي موصول بخدمة الإنترنت وبسرعة عالية ولكن بعد مرور أسبوعان على الزواج قام سالم بقطع الخط وبيع الحاسب الآلي ، ولم يبدي لعذاري لماذا فعل ذلك ؟
وهي أيضاً لم تحاول أن تسأله لأنها تعرف الأسباب الحقيقية وراء تلك الفعلة التافهة .
وفي ذلك اليوم جلست كعادتها اليومية أمام التلفاز وإذا بسالم يدخل وهو مقطع الثوب والدم يملئ ما تبقى من ثوبه وملابسه الداخلية .
نظرت إليه ببرود لأنها تعرف السبب وقالت : اغتسل .. ومن ثم عادت لمتابعة فلم وثائقي كان يعرض على أحدى القنوات .
ولم تدري إلا بقبضة قوية تمسك بها من رقبتها بالخلف ولم تشعر بنفسها إلا وهي واقفة ، التفت بسرعة البرق بعد أن أفلتت من قبضته وإذا بصفعة تدوي على خدها الأيمن .
نظرت إلى سالم وابتسمت وفي عينيها الدمع يتقاتل لكي يملئ خديها ويخفف عليها حرارة ألم الصفعة .. شكراً .
لم يرد عليها وتوجه لغرفة النوم للاغتسال وتبديل ملابسه .
عادت لمكانها وكأن شيئاً لم يحدث ولكن هناك شيء يحدث في نفسها انه ثوران البركان إنها تغلي وتعتصر ألماً .. يكفي ضرباً يكفي إهانات .. ما هذه الحياة ؟
وبعد مدة عاد وجلس على الأريكة بعد أن أخذ جهاز تحكم التلفاز وبدل القناة دون استئذان .
لم تتكلم ولم تعارض ولم تقوى على الحراك والذهاب لغرفتها ، وجلست تطالع بعينيها التلفاز وقلبها في عالم آخر في عالم جميل وهادئ ، في مكان ما على هذه الأرض ، في هذا الوجود هناك مكان رائع هي هناك بقلبها الآن هناك المتعة المفقودة .
أين هي ؟ سألت نفسها ولكن نفسها فضلت الصمت ، ولن تجيب ولن ترد .
استأذنت بعد مدة من سالم للذهاب لغرفتها .
قال لها : وأنا أيضاً سوف أذهب معكِ أريدك في موضوع .. وابتسم ابتسامة تكرهها عذاري جداً .
إنها تعرف ماذا يريد هذا الذكر الشاذ الشهواني يريد أن يطارحها الفراش كالكلاب ثم يتركها بعد أن يقضي حاجته تتحسر شوقاً ولهفتاً لإطفاء لهيبها الذي أشعله ، ولكنها لم تفكر في يوم أن تطفئها بالزنا أو بالعادة السرية ، إنما اكتفت بالأحلام أن غداً سوف يكون أفضل .
(16)
في ذلك الظلام وفي مقبرة الأوهام وبين أشواك الأحزان حيث الآلام تعشش فوق غابات الهموم جلست وحيدة مكبلة اليدين والأرجل في حفرة عميقة أصرخ بأعلى صوتي لكن لم يجبني أحدا حتى صدى صوتي لم يعود علي ليسليني قليلاً ، في أي عصر أنا وفي أي عالم أنا وفي أي دمار أنا أجيبوني ، تركت صغيرة وعذبت كبيرة ،ما الجديد في حياتي غير يوم كئيب يمر علي مثل الذي قبله ، كان لدي أخ وكنت أظنه سوف يكون سندي ولكنه بين الأموات ولكن عندي أختان لكنهن مثلي في غياهب الظلم والقهر والاستعباد ، ربما تقولون أنني أبالغ وإن عصرنا ليس هناك من مظلومات فالمرأة أخذت حقوقها كاملة ، أقولها لكم وبملء فمي يا للأسف لقد اقتصر فكركم على محيطكم ولم تغوصوا لكي تعلموا الحقيقة . انتهت عذاري من كتابة مذكراتها ووضعتها في خزانتها الخاصة وأقفلتها ووضعت المفتاح في ثوبها فلا مجال لأن يطلع عليها أحد غيرها حتى سالم كم تقاتلت معه ولم تيأس إلى أن رضخ وأعلن لها عدم رغبته الإطلاع عليها .
ذهبت للنوم وما أن وضعت رأسها على الوسادة قام سالم والذي لم يكن نائماً وقال لماذا لم تحملين إلا الآن ؟
الأمر عند الله عز وجل . قالتها وهي تعطيه ظهرها .
قال : غداً نذهب للعيادة لإجراء الفحوصات لقد تأخرتِ جداً وأنا أريد أن أصير أباً وأصدقائي يعايروني بأني إلى الآن لم يأتي لي مولود .
ابتسمت وقالت في نفسها لن أحمل منك فلا أريد أن أدنس بطني بمولود منك ، ولكنه في نفس الوقت كان يخالجها شعور بالخوف ماذا لو عرف الحقيقة وأنني من يتعمد عدم الحمل باستخدامي موانع الحمل بشتى أنواعها ، سوف يقتلني .
(17)
في الصباح الباكر استأذن سالم من عمله وذهب مع عذاري للعيادة وقد نبه عليها أكثر من مرة أن تتصل به قبل أن تدخل على الطبيب لأنه يريد أن يكون معها .
جلست عذاري في قسم النساء وقلبها يرتجف من الخوف ما الحل ؟ إني أعلم أنه ليس فيني عيب وسوف ينكشف أمري ، ماذا أفعل وما هو الحل ؟
قتلتها الأفكار المخيفة ولكنها قالت وما الجديد ضرب إهانة حرمان لقد تعودت .
مرت إحدى الطبيبات من قرب عذاري ومن ثم عادت لتقف أمامها رفعت عذاري نظرها ببطء لتنظر ، إنها نوال صديقتها الرائعة من أيام المرحلة الإعدادية والتي بقيت على اتصال معها دائم إلى أن توفي أباها وانقطع الاتصال بينهما .
عذاري إنها دنيا صغيرة .
نعم يا نوال .
لم تستطع نوال قول أي شيء آخر غير أنها ظلت تنظر إلى عذاري التي كانت في يوم ما فاتنة ورائعة وجميلة جداً وصاحبة عينين براقتين ووجه صافي ناصع وجسد فتان وهي تراها الآن كالعجوز في لباسها وهيئتها وبعينين غطاها جهد الإرهاق والبكاء وأسود محيطها وبشفاه ذابلة وجسد نحيل .
نوال هل تنجدينِ قالتها متلهفة .
عادت نوال للواقع من جديد : ماذا نعم نعم يا عذاري أفديكِ بروحي .
أخبرتها القصة ولماذا هي هنا .
قالت سوف آخذ ملفكِ وأتصرف بالموضوع كاملاً لا تقلقي .
سرحت عذاري تنظر لنوال ما أروعها من صديقة وأطالت النظر .
ماذا بكِ يا عذاري . قطعت نوال حبل أفكار عذاري فجأة .
ابتسمت عذاري بطريقة شعرت منها نوال بشيء غامض ، بشيء مدمر ، بمشاكسة ومغامرة جديدة ، فتلك الابتسامة من عذاري تعرفها جيداً من أيام الدراسة .
هل تستطيعين إخراجي من هذا المكان دون أن يرانا أحد . قالتها بعد أن اقتربت من نوال وهمست لها .
وعدتكِ أني سوف أقف معكِ ولو على فقداني روحي هيا يا عذاري يكفيني ألماً وحزناً وأنا أراكِ وأنتي صديقة عمري وحبيبة قلبي بهذه الحالة .
كاد قلب عذاري أن ينطلق مغرداً من الفرحة معلناً إنها الحرية ورحلت في رحلة قصيرة لعالم الأحلام سوف أذهب للمحكمة وأطلب الطلاق وأقاضيهم على سوء معاملتهم و و و وعادت سريعاً لعالم الواقع بقبض نوال كف عذاري اليمني قائلة هيا يا عذاري .
أخرجت نوال عذاري من الباب الخلفي للعيادة والخاص بالموظفين والذي يؤدي إلى مواقف مركباتهم الخاصة ، وأعطت عذاري مفاتيح عربتها بعد أن أشارت لها بمكانها لتنظرها في المركبة بينما تأخذ رخصة اضطرارية وتعود لها .
مرت عشر دقائق بطيئة جداً وكأنها مليون سنة حسب تعبير عذاري فكل جزء من الثانية كانت ترقبه وما أطول الانتظار في نفس هذا الوقت المصيري .
أتت نوال مسرعة وركبت وقالت إنها الحرية .
صرخت عذاري الحرية واو ..
وانطلقت نوال بمركبتها .
سألتها عذاري بينما كانا في الطريق : ولكن إلى أين ؟
قالت عندي شقة قريبة من هنا وسوف تقطنين فيها إلى أن نجد حلاً .
شقة استنكرت عذاري .
قالت نوال : لقد أعطيت إياها من إدارة المستشفى وأبقيتها مغلقة ولا أستخدمها أبداً فأنا لا زلت عازبة وأسكن عندي أهلي ماذا دهاكِ يا عذاري لست منفلتة . وضحكت وهي تنظر لعذاري .
ابتسمت لها عذاري واطمأنت ورفعت على صوت المذياع لآخر صوت واسترخت .
وصلتا للشقة والتي كانت فخمة بكل ما تعنيه الكلمة .
أخبرتها نوال بغرفتها وطلبت منها أن تسترخي وتأخذ راحتها ، وأرادت عذاري الاستحمام ولكن لا ملابس عندها غير التي تلبسها ، وعدتها نوال بالذهاب لمنزل أهلها وإحضار ملابس مريحة لها وبعض الطعام .
وبعد عودة نوال توجهت لغرفة عذاري ووضعت الملابس على السرير وكانت عذاري لا تزال في الحمام فلقد ملئت حوض الاستحمام واسترخت فيه ، أخبرتها بأنها أحضرت الملابس وذهبت لإعداد سفرة الطعام .
وبعد أن انتهت عذاري من الاستحمام ولبست الملابس التي أحضرتها نوال استرخت فوق كرسي للاسترخاء وضع في الغرفة والتي كانت مؤثثة أثاث فخم وكأنها شقة مسكونة ولقد علمت من نوال أنها مفروشة من قبل مالك البناية وأن إدارة العيادة استأجرت البناية ووزعت شققها على الموظفين مقابل عائد مادي بسيط جداً.
وتذكرت كيف أنها رمت بهاتفها المتحرك بعد إغلاقه في القمامة وضحكت من تلك الفعلة ، وهي تفكر جال بها فكرها وصال إلى أن سألت نفسها على حان وقت البحث عن المتعة المفقودة ؟
أطلت نوال من الباب وقالت بعد أن وضعت يديها على خصرها : إني انتظركِ وأنتي هنا مسترخية هيا سوف يبرد الطعام .
نظرت إليها عذاري وابتسمت ودون أن تتحدث قامت واتجهت معها وما إن وصلت إلى باب الغرفة إلا ودفعت نوال مازحة والتي بادرتها بدفعة وتسابقتا إلى غرفة الطعام ، لقد تدافعن وكأنهن عادتا من جديد لمرحلة المراهقة .
جلستا يناولن الطعام وتكلمن كثيراً وضحكن كثيراً وبكيتا كثيراً أيضاً وطال ذلك الغداء لمدة ساعتان كاملتان .
وبعد الانتهاء من الغداء جلستا في المجلس ولعبتا لعبة كانتا يلعبانها أيام الإعدادية ، ما أروعها من سعادة .
وهناك وقف سالم في مركز الشرطة يحرر بلاغ عن هروب زوجته واختفائها .
(18)
بقيت عذاري لمدة خمس أيام في شقة نوال والتي كانت تمر عليها بين الفينة والفينة وأحيان نستأذن من عملها لكي تبقى وقت أطول معها وكانت تحظر مع أحد المحاميات الشابات والتي كانت صديقتها من أيام الدراسة وذلك لرفع قضية تكون هي الرابحة فيها .
وفي نهاية يوم الخميس حضرت نوال لعذاري وقالت لها : غداً يوم عطلة وبعده ما رأيكِ أن نذهب لمدينة أخرى ونتمشى ونغير هذا الجو الكئيب .
وافقت عذاري بدون تردد فهي من ذو زواجها إلى هروبها لم تخرج في رحلة سياحية ولقد أرهقت نفسها جداً مع صديقتها المحامية وهي بحاجة لاستراحة لأني يوم الأحد القادم سوف تتوجه للمحكمة .
ظلت نوال هادئة ولم تتكلم بالمزيد .
نظرت عذاري إليها تحدثي يا نوال إني أعرفكِ جيداً في عينيكِ كلام كثير .
قالت نوال : لا تفهميني غلط يا عذاري أنا من عائلة محترمة ومرموقة ومتربية على فضائل الأخلاق .
ضحكت عذاري بهدوء وقالت : ومن قال غير ذلك ؟
عذاري سوف يرافقنا في الرحلة صديقي في العمل . قالتها نوال بسرعة هائلة .
صعقت عذاري بل شل لسانها وكادت أن تغييب عن الوعي .
عذاري أفهميني إنه مجرد صديق أتسلى معه صدقيني إنه محترم و و و
كلام كثير لم تسمعه عذاري والتي شعرت أنها في خطر ، أنها في عالم مخيف يجب الهروب منه .
نوال الفتاة المستقيمة الملتزمة بدينها والتي كانت تتحاشى الحديث للجنس الآخر إلا في الأمور العامة أو التي تخص العمل ، الآن أصبح لها صديق على حسب قولها ، وتذهب معه لرحلات طويلة وتنام معه في نفس الفندق ولو في غرفة أخرى ولكن ما الذي يؤكد لي ذلك ، دام أنها ذهبت معه وخرجت معه فما الذي يمنع أن تطارحه نفس الفراش .
ظلت عذاري تائهة في دوامة أفكارها وصامتة .
ونوال تتحدث وتقنعها .
دفعت عذاري نوال بقوة وانطلقت نحو الباب لتخرج وهي لا تلبس غير رداء مطرز مخصص للمنزل لا عباءة ولا غطاء للرأس ، وتمكنت من الخروج بسرعة هائلة ولم تنتظر المصعد بل نزلت من السلالم ، ولم يكن عليها الكثير لتنزله ، فلقد كانت شقة نوال في الطابق الثالث .
ونوال خلفها تجري اسمعيني افهميني يا عذاري اسمعيني .
لن أسمع لن أفهم . تقولها في نفسها .
تخطت الشارع وما إن وصلت لنصفه إلا وصدمتها مركبة لم تكن مسرعة جداً ولكنها كانت بالسرعة التي جعلت عذاري في عالم آخر .
(19)
وقف شخص يتضح عليه أنه ذا هيبة وذا مكانة مرموقة في المجتمع يحمل في يده اليمني ورقة مطرزة بالورود الحمراء ويفوح منها رائحة الياسمين والذي كان يوضع فيها على الدوام ، فما أن يذبل إلا ويتم استبداله .
ظل واقفاً أمام قبر لمدة طويلة ومن ثم حفر حفرةً تكفي لإخفاء الورقة ومن ثم وضعها ودثرها بالتراب .
لقد كان غانم صديقي من ذو الطفولة ولقد كان يعلمني بكل أموره مهما صغرت أو كبرت أو زادت درجة سريتها وحساسيتها ولقد أعطاني هذه الورقة قبل وفاته بلحظات وقال لي إنها لعذاري .
عذاري يا صغيرتي المدثرة بالتراب في هذه الحفرة لقد منعت من إنقاذكِ ولقد حاولت لكن صدني عمكِ بشدة واستغل نفوذه ليسكتني ، عذاري يا غاليتي هل وجدتِ المتعة المفقودة ؟
كفكف دمعاته وهو يغادر للقبر الذي بجانبه وقال لقد أوصلت الأمانة يا غانم ولكن متأخراً فأعذرني وهذه ابنتك تنام بقربك فتستطيع أن تسألها إن استطعت .
ورحل ورحلت الأيام ولم يبقى غير شاهد على تلك القبور معلناً النهاية .
( من مذكرات عذاري )
ومن ثم ذهب في نوم عميق لم يستيقظ إلا بتربيت أمه على خده بنعومة ولطف ، قم يا محمد فلقد حان وقت الغداء ، نظر إليها بعين شاحبة لا أريد ولا أشتهي شيئاً .
صعقت الأم وارتبكت واقتربت منه وتحسست جبهته ماذا بك يا عزيزي هل يؤلمك شيء.
أشاح بوجهه عن أمه وقال لا شيء .
أرجوك يا حبيبي محمد تحدث ماذا بك ؟
نظر إليها وقال : لماذا لا تكون لي مركبة خاصة أقودها ؟
ولكنك صغير قالت الأم .
لم يرد عليها إنما نظر إليها وعيناه تترقرق بالدموع.
كفى كفى يا حبيبي سوف اقنع أباك أن يشتري لك المركبة التي تريدها ولكن عدني أنك سوف تذهب معي لتناول الغداء الآن .
قال محمد : بعد أن تجهز للنهوض من سريره إنه أمر بسيط لقد انفتحت شهيتي للأكل .
علت الضحكات من محمد وأمه وهم يتوجهان إلى غرفة الطعام .
وفي الطرق سأل محمد أمه هل أنا رجل المنزل الآن ؟
الأم بكل تأكيد ومن غيرك فأخواتك الثلاث وان كبرنك سنا ولكنهن في النهاية نساء.
نظر محمد إلى الإمام بعد أن تنحنح ومشى يزهو بنفسه مردداً لقد أصبحت رجل المنزل .
(2)
انقلاب مروع لمركبة في الطريق السريع ذهب ضحيته محمد وصديقه وكان السبب الرئيسي لحدوث الحادث السرعة الزائدة والتجاوز بطريقة خطره ثم انحرافاً انقلبت على إثره المركبة عدت قلبات هشمت بها عظام محمد وصديقه .
أم محمد رمت بعد مراسم العزاء باللائمة على أبوه ، والأب كذلك رما باللائمة على الأم ، وزادت المشاكل بينهما .
أنا امرأة وأنت أعلم مني لماذا وافقت على طلبي شراء مركبة لمحمد ، ظلت الأم تردد ذلك .
والأب يرد : أقنعتني أنه أصبح رجلاً وصار أهلاً للمسؤولية .
كل منهما يرمي باللائمة على الآخر .
وتحول المنزل لحلبة قتال وتعودت الشرطة الانطلاق لمنزل أبو محمد لفض النزاع بينهما .
وصارت حياتهم جحيماً لا يطاق وجلسن البنات الثلاث في محل الجمهور ينظرون فقط لا تشجيع ولا إطراء ولا مساندة فلا يحق لهن الحديث لأنهن بنات !
وبعد سلسلة من النزاعات طلق أبو محمد زوجته وترك لها المنزل بعد أن سجله باسمها هي وتركها هي وبناتها ورحل في حال سبيله .
وما هي إلا مدة واقترنت الأم بزوج يصغرها بعشر سنوات من جنسية أخرى ورحلت معه لبلده بعد أن باعت كل ممتلكاتها ومنهن كان البيت الذي أعطاها أبو محمد .
ورحلن البنات أيضاً ولكن إلى منزل عمهم في المدينة المجاورة .
إنه الشتات والضياع في عالم الألغاز والأسئلة الحائرة الباحثة عن إجابات ، إنها الدمعات الحارقة في الليالي الباردة القارسة ، لقد تدمر كل شيء ، لقد انتهى كل شيء في لمح البصر ، كنا سعداء والآن أشقياء ، كنا أغنياء والآن فقراء ، كنا محبوبين والآن منبوذين في غرفة متواضعة بحمام بسيط ، غرفة نجلس ونأكل فيها وندرس ونتسامر فيها ونشكو ونبكي فيها ، فلا نستطيع الخروج فمنزل عمنا ممتلئ بالرجال ولهذا سوف يكتب علينا أن نسجن في تلك الغرفة .
جلسن بنتان من البنات يتحدثن وجلست إحداهن تكتب ما ذكر سالفاً في مذكراتها .
ابتسمت مها وقالت بسخرية ما رأيكن أن نشكو لحقوق الإنسان مما نعاني منه ؟
نظرت حنان والتي تصغر نوال بسنتين إنها فكرة جيدة !!
وظلت عذاري تنظر إليهن مبتسمة بعد أن أغلقت دفتر مذكراتها وضمت ركبتيها بيديها .
ما رأيكِ يا عذاري قالتا بصوت واحد .
زادت ابتساماتها إلى أن برقت أسنانها البيضاء وقالت : بصوت هادئ أظن أنه حان وقت النوم وأشعر وبشدة أن السهر أثر جداً على عقولكن .
ضحكن بصوت واحد وتوجهن للنوم .
(3)
زفت مها على حين غرة كما قالت حنان ، فلقد تقدم أحد الخطاب ووافق عمها دون تردد ودون مشاورتها ، وسارت مراسم الزفاف ببساطة ، ومها مبتسمة ولكنها غير سعيدة ومتأملة أن بيت الزوجية يكون أفضل .
لكن لا أمل فقبل الزفاف بأسبوع وصلتها أخبار مؤكدة أن زوجها يعاقر الخمر ويهيم فالعاهرات .
ابتسمت وهي تخبر أخواتها وللتين أخذن الموضوع بسخرية وبدأن بالتمثيل وبدأن جميعهن بإطلاق الضحكات .
وكما يقال شر البلية ما يضحك .
نامت البنات الثلاث ...
واستيقظن على أنين حزين وكأنه ناي يعزف مقطوعة النهاية ، انطلقت عذراي لتفتح المصباح وإذا بالصوت يصدر من مها .
ضلت حنان تنظر لظهر أختها المستلقية فوق سريرها البسيط الموضوع بقرب الجدار .
وعادت عذاري لسريرها وقعدت قعدتها التي تشتهر بها وهي ضم كلتا ركبتيها بيديها .
فمن منهن يستطيع تغيير الأوضاع ، واكتفين بإرسال رسائل الدمعات على صفحات الخد وبإصدار الأنات الحزينة المعزوفة بلحن الألم .
(4)
بعد مدة من الزمن وليست طويلة تزوجت حنان ، وبقيت عذاري وحيدة ، ولكنها بعد مدة قصيرة هربت من منزل عمها بعد محاولة إجبارها على الزواج من رجل في الستين من العمر وهي التي تبلغ من العمر أربع وعشرين عاماً ومن خريجات كلية الطب بتفوق .
هربت ليلاً بعدما خلد الجميع للنوم وحملت معها مبلغ كانت تجمعه من فتات الهبات التي تصل لها من أبوها والتي لم تره من ذو شهر مع انه يسكن في نفس المدينة بعد انتقال مقر عمله لها .
وقبل هروبها كتبت رسالة ( من هنا تبدأ حياتي سوف أبحث عن المتعة المفقودة فعذراً فأنا أعرف وبشدة أني لن أجدها لديكم إلى لا لقاء ) .
(5)
كان شتاء 2002 بارداً جداً وقارس ولقد اختارت الهروب في ليلة الاثنين لعلمها بنوم الجميع بوقت مبكر للنهوض بالغد للعمل لهذا لن تجد صعوبة في الهروب والابتعاد .
استقلت مركبة أجرة أخذتها للمدينة المجاورة والتي تبعد 150 كم ، وتوقفت أمام استراحة للشقق المفروشة الرخيصة ودخلت واستأجرت غرفة لمدة ثلاث أشهر .
وجلست أول ليلة وحيدة خائفة جائعة وهي تستمع لأصوات السكيرين والمعربدين في الممرات وفي الغرف المجاورة والتي كانت أصواتهم تخالط أصوات العاهرات الماجنات الرخيصات .
كم ارتعدت فرائصها لفكرة أن يقتحم أحد غرفتها بعدما يعلم أنها وحيدة فيها ، ولأن الشرطة لن تصل أبداً ولن تعلم بالأمر لأنه ولسبب واحد كل ما حولها شياطين الأنس تتجول فمن منهم فيه النخوة لنجدتها .. أين المفر ؟
بكت كثيراً إلى أن هدأ الوضع مع أذان الفجر والذي يطرد تلك الشياطين ويسكتهم ويحبسهم في كهوفهم القبيحة النتنة .
استمعت عذاري لصوت الأذان العذب وقامت بعدها تصلي ومن ثم استلقت لتنام فاليوم سوف تجعله يوم راحة لها وفترة نقاهة وغداً سوف تنطلق للبحث عن وظيفة محترمة تكسب منها قوت يومها وتنتشلها من براثن الفقر الجارحة .
نامت ورحلت في أحلامها وكأنها طفلة صغيرة احتضنت بيديها لعبتها ونامت ، طارت محلقة بأجنحة الأمل لعلا الغد يكون أفضل .
الهروب من الجحيم هو الحل فالانتظار فيه لا يزيد المرء غير احتراقاً وتعذيباً .
هربت نعم وأعلم أني سوف أصبح في نظرهم عاهرة وماجنة وسوف تقال عني الأقاويل ولكن أين الحل ؟
لا حل أبداً غير الهروب من الجحيم .
هذا ما كتبته عذاري في مذكراتها قبل أن تسلم نفسها للنوم كلمات كانت نوعاً ما غير متناسقة ولكنها عبرت عن ما بنفسها .
(6)
رن هاتف المكتب واستلمه العقيد غانم أبو عذاري ! ، والذي يعمل في مكافحة المخدرات لإدارة الشرطة .
السلام عليكم .. رد غانم .
لم يرد المتصل السلام ولم يرحب بل قال من غير مقدمات وبصوت يمزقه الصراخ ( لقد هربت ابنتك الوقحة عذاري من المنزل بالأمس ) .
صدم غانم وشل لسانه وتسمرت عيناها ينظر للأمام ولكنه بالأصل ينظر لصورة ابنته عذاري .
أقول ابنتك هربت ولقد بحثنا عنها في كل مكان ولم نجد لها أثراً .
وبصوت متقطع ومتأثر قال غانم : أخي هل أنت تعي ما تقول ؟
نعم يا غانم وهل تراني مجنوناً ؟
خير إن شاء الله سوف أبحث عنها إلى اللقاء ، أغلق غانم الهاتف الثابت في وجه أخيه والذي كان يعطيه الأوامر بقتلها وبتعذيبها عندما يجدها ، ورجع بكامل جسده على كرسيه الضخم وقال : لقد حان الوقت .
تقدم من جديد لمكتبه واتصل بقائده الأعلى وطلب منه إجازة إلى نهاية الأسبوع ووافق القائد دون تردد .
انطلق غانم بمركبته المرسيدس الفخمة لشقته والتي استأجرها بعد إعطاء منزله لزوجته السابقة لتغيير ملابسه .
(7)
استيقظت عذاري في الظهيرة وكانت تعتصر من الجوع وقررت الخروج وبما أن الجميع سوف يكون نائماً ولن يصحو أحداً منهم إلا في وقت متأخر من ذلك اليوم لهذا اطمأنت وخرجت بعد أن لبست عباءتها .
ذهبت تكتشف تلك المدينة الرائعة المطلة على البحر والمشهورة بمركزها التجارية الراقية والفخمة وبفعاليتها السياحية المميزة ، ولكنه ليس اكتشاف للبحث عن بضاعة أو فعالية اكتشاف للبحث عن مطعم مميز يرضي غرور جوعها .
استقلت مركبة أجرة وانطلقت لإحدى تلك المراكز وعند وصولها توجهت مباشرة إلى باحة المطاعم .
وبعد وجبة دسمة من مطعم إيطالي تكونت من الباستا الإيطالية الحارة ومشروب غازي منعش وسلطة السيزر الشهية ، ابتسمت عذاري وقالت في نفسها سوف ينفذ المال إن عشت بهذا الترف .
وقامت من بعدها وبعد أن حمدت الله عز وجل على إنعامه وتفضله عليها ، تتجول في أنحاء المركز وتوقفت كثيراً أمام المحلات النسائية تتمعن بأسى تلك المنتجات الجميلة وتتمنى لو أن بحوزتها المال الكافي للشراء ، كم ذلك مؤلم أن يكون أبواك أغنياء وأنت فقير معدم وحيد في عالم غريب .
وأمام محل لبيع النظارات الراقية والتي تحمل أفخم الماركات العالمية لفت انتباهها نظارة شمسية جميلة جداً جمعت بين اللون الذهبي الخفيف والذي تطرز بها حوافها الخارجية وبين اللون الوردي الهادي والذي طغى عليها بالكامل وبين عدستها السوداء ، ما أروعها وبدون وعي وجدت نفسها داخل المحل وكان وقتها فالمحل أحد المشترين والذي كان مشغولاً بتجريب بعض النظارات لوحده والبائع والذي استقبل عذاري بابتسامة ثقة أنها سوف تشتري وليس مجرد مرور ، توقفت عنده وسألت عن النظارة في الخارج .
قال البائع : الكل يسأل عنها .. وبدأ يشرح لها طريقة صناعتها وماركتها ومميزاتها وضمانها العالمي وبعد أن انتهى من شرحه الممل سألته عذاري بلطف : كم سعرها ؟
قال بلهجة ثابتة : ثلاث آلاف درهم .
ابتسمت بخجل وقالت :شكراً وفي نفسها تقول كل ما أملك هو مبلغ أربع آلاف درهم .
قال البائع وكأنه خسر صفقة : لا تريدينها !!
أجابت : في وقت آخر سوف آتي لأخذها .
تدخل المشتري وقال أعطها النظارة وسوف أحاسبك أنا عنها ونظر إليها بنظرة جعلتها تشعر بنواياه السيئة وإن كانت غير سيئة فما هذه الوقاحة وقلة الأدب لست شحاذة ولا عاهرة ولا فتاة ترتمي في أحظان من يشتري لها الهدايا لهذا لست رخيصة فأي كرم زائد يجعله يدفع كل ذلك المبلغ لامرأة لا يعرفها ولم يلتقي بها يوماً ما ، في زمن كثر فيه اللئام وقل بل وأحيان ينعدم فيه الكرام ليس هناك مجال إلا أنه من الصنف الأول فالكرام لا يتدخلون كما تدخل ذلك الوقح .
قالت بعد أن ارتسمت على شفتيها ابتسامة جادة : شكراً ولكني أستطيع شراءها الآن ولكني لا أريد !
ضحك بصوت خفيف سخيف : وقال اشتريها الآن إذاً إن استطعتِ وعاد ليجرب بعض النظارات .
إنه التحدي ما أوقحه وما أغباه سوف أقتله قهراً أعرف أني تسرعت جداً ولكن كنت أريد أن أخرس هذا الذكر .
قالت متوجه للبائع : أعطني إياها وأخرجت محفظتها ودفعت سعرها بالكامل وسط ذهول المشتري والذي كان يسترق النظر إليها .
لم تنظر ناحيته ولم تفكر فلماذا تشوه عيناها بالنظر لمثل هذا اللئيم شكرت البائع بعد استلام كيس جميل وضعت فيه النظارة ومن ثم خرجت وما أن اختفت عن أنظارهم إلا وضحكت بصوت مسموع وقالت في نفسها لقد أفلست .
وكانت هناك مجموعة من الفتيات المراهقات بقرب إحدى المحلات وجهن نظرهن إليها بعد سماعهن ضحكتها وبجرأة من إحداهن أأكد أنكِ اشتريتِ شيئاً مميز .
قالت عذاري : نعم تلك النظارة الوردية .
وبصوت واحد ارتفع صوت المراهقات: واو رائعة .
وانطلقت عذاري إلى حال سبيلها مبتسمة من الموقف الذي حصل لها ، وبعد جولة طويلة في المركز الضخم وكانت حينها الشمس تتأهب للرحيل قررت الذهاب لمسجد فيه قسم للنساء على شاطئ البحر والصلاة فيه صلاة المغرب ومن ثم الجلوس على شاطئ البحر .
وبعد انتهائها من الصلاة توجهت لأحدى المطاعم الموجودة بالقرب من المسجد واشترت بعض السندوتشات مع عصير الفراولة الطازج وانطلقت للجلوس على الشاطئ وتناول الطعام .
وبعد انتهائها من عشاءها ووضع القمامة في مكانها المخصص ، عادت وجلست مكانها ونظرت للأفق وقالت بهدوء ولكنه بصوت مسموع غداً سوف يكون أفضل .
ومن خلفها ارتفع صوت رجل يافع ثابت الخطى : من صغر سنكِ وأنتي تحبين البحر .
التفت مرعوبة وتتمنى أنه ليس الذي في بالها ولكنه هو بعينه إنه أباها تسمرت مكانها ولم تستطع الحراك بل ظلت تنظر إليه وهو يقترب .
أشار لها بأن لا تقوم وهي في قرارات نفسها تعلم أنه لا أمل للوقوف فلقد شلت من الخوف .
وصل إليها وجلس عن يمينها وضم ركبتيه بيديه كما تجلس ابنته ونظر للأفق وقال : غداً سوف يكون أفضل .
عادت لوضعيتها وهي تقول وبصوت هادئ : لا أعتقد ذلك !
وطال الصمت بينهما .
(8)
أحببت أمكِ من كل قلبي ولكن بعد سنتان من زواجنا مات ذلك الحب لأننا لم لم نسقيه وأهملناه وتراكمت حوله الحشائش الضارة وذبل وصارت حياتنا مجردة من كل شيء يعنيه ذلك الحب وصار الجامع بيننا عقد القران فقط .
لقد كرهت المنزل بما فيه وأيضاً أنتم وأعترف بها يا عذاري كرهتكم جميعاً لأنني كنت أشعر بأنني منبوذ بينكم فتصرفاتكم كانت تقتلني ، إن دخلت للمنزل ذهبتم لغرفكم وان جلست معكم لنتناول الطعام لا يحادثني أحد منكم غير أمكم ، وأنا أعلم أنها هي من علمتكم كل ذلك من مبدأ الاحترام ولكنه لم يكن احتراماً بلا تعذيباً لي وإهانة ، لم أستطع الانسجام معكم فطبيعة عملي القاسية وذلك الكم الهائل من المجرمين والقضايا جعلني شخص ثائر منعزل فلم استطع أن أتقرب وكنت بحاجة لمن يقربني إليكم ويجمعني بكم ، كنت أسمع نداءات قلوبكم وهي تنادي أحضنني يا أبي أنا بحاجة لك يا أبي ولكنني كنت حائراً أين المدخل أين الخلاص ، نظراتكم كانت تبكي قلبي وكنت أريد أن أصرخ أحبكم يا أطفالي هيا بنا نعود لعالمنا الأسري الرائع لكن لا أمل ، وأيضا أمكم لعبت الدور الأكبر في عدم الانسجام فبرودها وعدم مبالاتها في اندماجي بينكم وأنانيتها جعلتني لا أفكر إلا بنفسي أصبحت أنانياً ولكن ليس بكل ما تعنيه الكلمة ، فأنا أكدح وأخاطر بنفسي لملاحقة المجرمين لكي أنظف مجتمعي من تلك الشرذمة .
لست أنانياً يا عذاري قالها مترجياً أن تصدقه بعد أن التفت نحوها واغرورقت عيناه بالدمعات .. لست أنانياً .
ظلت عذاري تنظر إلى الأمام دون أن تلتفت إليه أو تتفوه بكلمة .
ثم عاد ونظر للأفق ، هل تعلمين أنني علمت مكانكِ بسهولة فاتصالاتي لم تتعدى الأربع اتصالات وأخبروني أنكِ نزلتِ في إحدى فنادق الشقق المفروشة في هذه المدينة ، وبهذا حددت وجهتي ، وبما أنني أعلم أنكِ تعشقين البحر وبالذات هذا المكان جئت مباشرة إلى هنا .. عذاري .
نعم يا أبي .
هل تذكرين أننا كنا نلعب في يوم من الأيام هنا .
لم تجب عذاري وأجهشت بالبكاء .. ما أروعها من ذكريات وما أحلاها من أيام .
نظرت إليه بعد مدة وهي تمسح دمعاتها نعم نعم يا أبي أتذكر كل ذلك .
هل تذكرين مكانها .
ضحكت عذاري وهي تنظر لعينين أباها بكل تأكيد قالتها مؤكدة إنها المحارات التي جمعناها جميعاً في ذلك اليوم ودفناه بالقرب من تلك الصخور .
إذاً لننظر هل سوف نجدها .
نعم يا أبي هيا .
قاما يتسابقان إلى أن وصلا لمجموعة من الصخور الكبيرة وحفروا هناك تحت إحداهن ووجدوا المحار .
أمسكتها عذاري بيدها وقالت هل لي يا أبي باحتضانك .
ودون أن يرد عليها ضمها إليه وقال أحبك يا عذاري يا أبنتي الغالية .
بكت عذاري بحرقة وهي تمسك بالمحارات بقوة في قبضة يدها اليمنى .
وطال الصمت وعذاري في أحظان أبوها وبقيت القلوب في الحديث مع بعضها .
(9)
استقلت عذاري مركبة أبوها وتوجهوا لفندق الشقق المفروشة لأخذ أغراض وحاجيات عذاري .
وطوال الطريق ظلا ساكتين إلى أن وصلا .
دخلت مع أبوها محتمية به من نظرات الفسقة في باحة الفندق وحينها استغل غانم نفوذه وأرهب مدير الفندق لإرجاع المبلغ كاملاً وخصم منه المدة التي بقيت فيها عذاري ، ومن ثم توجها للغرفة وحمل الأب جميع أغراضها وسارت بقربه عذاري كالأميرة المتباهية بشهامة الرجل الذي يسير بقربها ومن ثم سلم غانم المفتاح للاستقبال وانطلقوا لمدينتهم الأم .
وأيضاً كان الطريق للمدينة صامتاً ، لا حديث يذكر إلا عند الاستراحة وسؤال أباها لها ماذا تريدين ؟
ظل أب عذاري يفكر بتلك الطريقة التي تقبل بها هروب ابنته وكيف تجاوز أوامر أخوه بقتلها أو تعذيبها ، فلقد فضحت العائلة بفعلتها .
ماذا دهاني أأصمت وأتعامل معها بهذه الطريقة ، ولكنها طريقة ناجحة ولقد تقبلتني عذاري من جديد دون معارضة وبرحابة صدر .
قتال الأفكار ظل يصول ويجول في عقل غانم إلى أن وصلا للبناية التي تقع شقته فيها ، وهي عبارة عن مبنى مكون من ستة طوابق وفخم جداً وبه حراس للأمن ويقطن فيه غانم في الطابق الأخير .
ركبا المصعد ومن ثم دخلا لشقته وأراها غرفتها والتي لم تأثث بعد وقعد وضع فيها فراش أبيض مع لحاف ووسادة كل منهن أبيض اللون والتي كان قد جهزها أبوها عند عودته لتبديل ملابسه لعلمه التام وثقته أنه سوف يجدها قال : نامي اليوم هنا وغداً سوف نذهب لشراء الأثاث الذي ترغبين به ، تصبحين على خير قالها بعد أن طبع قبلة شفافة ورقيقة على رأسها ورحل .
جلست عذاري على الفراش وأخرجت من أمتعتها دفتر مذكراتها وبدأت تخط ما حدث اليوم بخط جميل جداً وجاهدت لجعله مميزاً فاليوم يوم رائع ومميز وجميل وفيه أحداث خيالية مفرحة .
كم هي الحياة غريبة في بداية اليوم كنت خائفة مرتعبة ، ومن ثم مفلسة وليس بحوزتي غير القليل من المال وكنت سوف أهلك إن لم أجد عملاً بأقصى سرعة ثم أبي يظهر فجأة في نهاية اليوم وبطيبة وتقبل راقي أرجعني إليه وإلى الأمان ، كم هي غريبة هذه الحياة ......
ظلت عذاري تدون في مذكراتها إلى أن غلبها النعاس وقامت وأقفلت المصابيح واستلقت ، ولا مجال للأحلام فلقد ذهبت في نوم عميق أول ما وضعت رأسها على الوسادة .
(10)
صراخ عم المكان في الصباح الباكر ، إهانات جارحة ، وسباب لاذع ، فتحت عذاري الباب قليلاً دون أن يراها أحد لتنظر ما هنالك ، رأت وقتها عمها يكيل السباب والشتائم لأباها وينعته بالديوث وبالحقير ، وكيف يرضى بكل ما فعلته أبنته ويظل صامتاً والأعظم أنه أحظرها معه إلى شقته .
وأبو عذاري صامتاً لا يتحدث وينظر لمحل أقدام أخاه .
أغلقت الباب عذاري برفق لكي لا يشعرا بها وقلبها يكاد ينخلع من صدرها من الخوف ، ماذا سوف يحدث ؟
وظلت تستمع وكانت تذهب بها الأفكار ، إن عمي صاحب كلمة قوية ومسموعة وصاحب فصاحة لغوية كبيرة ويستطيع أن يثير النعرة الجاهلية في أبي وربما يأتي وينحرني كما تنحر الشاة أو يضربني ضرباً مبرحاً يجعلني طريحة الفراش لمدة شهر كامل .
زاد الصوت حدة والأب صامت لا يتحدث .
وإذا بصرخة تدوي في المحيط ، كفى كفى كفى وتبعتها لطمه قوية ، فتحت على أثرها عذاري الباب دون وعي ووقفت تنظر ، وإذا بعمها ملقى على الأرض ينظر لأباها وهو يرتعد من الخوف .
أخرج .. قالها غانم بصوت حاد ، جمع العم ما سقط من حاجياته وولى هارباً .
نظر غانم لعذاري وكانت لاتزال العصبية واضحة على وجهه ، ارتعدت عذاري ، وما هي إلا ثواني إلا وتحولت تلك العصبية لابتسامة هادئة جداً ورائعة ارتاحت على إثرها وهدأت روحها .
هل استيقظتِ يا ابنتي الغالية ؟
لم تجب عذاري غير بابتسامة .
ذهب غانم ليغلق باب الشقة والذي تركه العم مفتوحاً وثم عاد متوجهاً لابنته .
وبعد أن احتضنها قال : لقد جهزت لك الطعام والذي صنعته بيدي نوعاً ما .
وهل تطبخ يا أبي
نعم نعم تستطيعين أن تقولي ذلك فمعظم ما وضعته لكِ كان من المعلبات . ضحك الأب بعد أن أنهى جملته .
هيا لنجربه ومن اليوم أنا التي سوف يطبخ .
جميل جداً فسوف تستريح معدتي من أكل المطاعم وسوف أعد قائمة الطعام التي أريد .
ضحكا وهما يتوجهان إلى غرفة الطعام والتي جهزها غانم ، وكان الإفطار عبارة عن بيض مغلي على الزيت وحبات زيتون وجبن وشاهي بالحليب وقطعتان من سندوتش الزعتر والذي أحضره من المخبز وكيس به خبز أسمر .
تناولا الطعام بصمت فلا زالا غير منسجمان أو بالأحرى في الطريق للانسجام .
ما أصعب الحياة وأنت ترى أبنتك أمامك ولكنك لا تعرف كيف تتواصل معها أو تحاورها , أو حتى تستمع إليها ، والذي يزيد الأمور تعقيداً عندما تكون تلك البنت صامتة .
كم أحبكِ يا عذاري وأريدك أفضل وأريد أن أكون أباً رائعاً لكِ . ظل الأب سارحاً في أفكاره بينما كانا يتناولا طعام الإفطار .
(11)
وفي المساء استلقت عذاري على فراشها بعد عودتهم من محل لبيع الأثاث وأعجبها طقم غرفة نوم رائع غلب عليه الطابع الغربي الهادئ واللون الوردي مع الأبيض واختارته وقام أباها وأنهى الإجراءات وسوف يتم استلامه بعد ثلاث أيام .
وأطالت عذاري المكوث في الفراش وشعرت بأنها ليست على طبيعتها وأن الدنيا تدور بها ، تريد أن تصرخ لكن لا تستطيع وذهبت في غيبوبة .
دخل غانم غرفتها ونادى عليها ولكنها لم تجب ، اقترب منها أكثر وربت على خدها لتقوم : عذاري انهضي قليلاً أريدك في أمر مهم جداً !
لكنها لا تجيب ، قاس نبضاتها ووجدها غير منتظمة وتنفسها ليس طبيعياً زاد ذلك من روعه ، وانطلق لهاتفه ليتصل بالإسعاف والتي حضرت في دقائق معدودة .
وتم معاينتها في غرفتها وتم قياس ضغطها ونبضاتها ولكن كل منهن لم يبشر بخير فلهذا قرروا نقلها للمستشفى .
ركب غانم بالقرب من عذاري وظل طوال الوقت يمسك بورقة بكلتا يديه ويبكي بحرقة .
لقد أتيت لأقول لها هل وجدتِ الآن المتعة المفقودة ، وهذه الورقة التي كتبتيها وقت هروبك من منزل أخي سوف أعطيكِ إياها لكي تغييرها وتكتبي لقد وجدت المتعة المفقودة ولكنك الآن مسجاة أمامي بلا حراك .
وصلت مركبة الإسعاف للمستشفى وهرع الطاقم الطبي لها وحملوا عذاري فوق سرير متحرك لغرفة العناية المركزة .
لا أمل لأن الأمل يحتضر .
ودوماً نحن هكذا لا نعرف قيمة بعضنا إلا عندما نراهم يتألمون أو نفقدهم من على الوجود .. لماذا ؟
جلس غانم في الردهة المقابلة للغرفة التي تعالج فيها عذاري وحيداً محطماً .
خرج الطبيب بعد مدة وطار إليه غانم يا طبيب ماذا في ابنتي ؟
قال الطبيب : إنها تعاني من فقر دم خطير جداً وبحاجة لنقل دم الآن وبالسرعة العاجلة والحمد لله أن نوعية دمها ليست بالنادرة وموجودة في مختبر المستشفى ولقد اتصلت بهم وما هي إلا دقائق إلا وسيري في عروقها اطمئن يا سعادة العقيد غانم ابنتك في أعيننا .
ابتسم غانم ابتسامة مرهقة : وهل لي أن أراها ؟
تفضل لكن لا تطيل البقاء عندها .
إن شاء الله وشكراً على جهودك يا دكتور .
ابتسم الطبيب ورحل .
دخل غانم ببطء ينظر لعذاري والتي نامت بين تلك الأجهزة المزعجة كالأميرة ، وضع يده اليمنى على جبتها وظل يتحسس وجهها بلطف ورقة ، ومرت خمس دقائق سريعة ولم يشعر الأب إلا بدخول أعضاء المختبر تتقدمهم عربة مخصصة لنقل أكياس الدم وفيها مجموعة من تلك الأكياس .
أمروا غانم أن يخرج .
ابتسم لهم وشكرهم وأوصاهم بابنته ومن ثم خرج وعاد لمكانه في الردهة وحيداً .
(12)
جلس بالقرب من غانم في ردهة المستشفى رجل يعرفه جيداً .
ولم يسلم ولم يستأذن إنما بادره بالسؤال بعد أن أسند كامل ظهره على المقعد .
لماذا أنت هنا يا غانم ؟
ابنتي ... إجابة مختصرة .
أرى أنك منهار جداً وهو كذلك الأبناء ما أن يصاب أحدهم بمكروه إلا وتنقلب الدنيا علينا رأساً على عقب وننسى الدنيا بما فيها ونجلس هنا ننتظر الفرج والخبر المفرح بسلامتهم ، أليسوا هم منا ؟ قالها جملته الأخيرة بتعجب بعد أن نظر إلى غانم والذي ظل ينظر لأرضية الردهة .
لم يجب عليه غانم !
هل ترغب باحتساء كوباً من القهوة معي في كافتيريا المستشفى لعله يهدأ أعصابك قليلاً ، أم أنك تخاف على سمعتك إذا قعدت مع مروج للمخدرات سابقاً .. قالها باستهجان واضح .
تجاهل غانم ما يقوله الرجل وسأله : ماذا تفعل هنا ؟
الذي تفعله أنت يا غانم أأدي واجبي اتجاه ابني ذو الثلاث أعوام المسجى في العناية المركزة من أثر تناوله كمية كبيرة من الصابون السائل ، نعم إنه إهمال ولكن ما الفائدة الآن من معرفة السبب .
لم يرد عليه غانم وظل على حاله ينظر إلى أرضية الردهة ويضع كفيه على خديه ومستنداً بأكواعه على فخذيه .
هل سوف تذهب معي ؟ .. أعاد سؤاله
لا شكراً قالها غانم بعد أن نظر للرجل وبابتسامة هادئة تعبر عن امتنانه وشكره على دعوته ولكنه لا يستطيع فراق عذاري وان يكون عنها بعيداً يكفي سنوات البعد الفائتة .
براحتك يا عزيزي غانم إلى اللقاء .
ظل عقرب الساعة يلدغ غانم في كل نبضة من نبضاته والخوف يملئ محيطه والترقب واللهفة جعلته بلا عقل ولا قلب يفكر إلا بتلك الفتاة النائمة في غرفة العناية المركزة .
ولكن الأمل هو الذي يبقيه في مكانه ويحفظه قليلاً من الجنون .
(13)
شفيت عذاري سريعاً وعادت لشقة أبوها والذي بدوره وجد لها وظيفة في مركز طبي حكومي بالقرب من شقته وبدأت العمل بعد شهر من شفاءها .
وانشغلت جداً في عملها والذي أحبته من كل قلبها والذي سوف تتحقق فيها أمنيتها وهي خدمة المجتمع والسهر على راحتهم أهداف نبيلة تحملها من نعومة أظفارها .
ما أروعها من أيام مرت عليها في ذلك المركز الطبي ، وكم طارت من الفرحة عندما استلمت أو راتب لها ، ظلت ذلك اليوم تغرد كعصفور الكناري فرحاً وطرباً ، وظل أباها سعيداً فرحاً ينظر إليها بينما كانت تريه راتبها وتحسبه أمامه وتخبره بما سوف تفعل و و و ... ما أروعها من لحظات دافئة رائعة .
مر على تعينها عدة أشهر مرت سريعة ، وفي بداية خريف سنة 2001 رحل أباها بحادث اصطدام بعمود إنارة أثناء ملاحقة أحد تجار المخدرات ولم تمهله الصدمة وقتاً فلقد توفي في مكان الحادث واحترقت مركبته بعد إخراجه منها بثواني معدودة .
وتساقطت الورقات من على الأشجار وتلقت الخبر عذاري كالصاعقة وذبلت الوردات اليانعة فجأة أمامها وأظلمت الحياة وصارت لا ترى شيئاً غير زوجة عمها والتي أخبرتها بالخبر وأمرتها أن تحمل أغراضها للذهاب لبيت عمها .
بكت كثراً ، فلقد رحل سندها وعونها لقد رحل قبل أن يرجع لها الذي حرمها منه بالسابق كان لازال يسد الدين ولكنه لم يوفيه فلقد كان الموت أسرع ، سامحته من كل قلبها ودعت له كثيراً في كل صلاة وفي كل لحظة ، لقد تعرفت عليه قليلاً ووجدته شيئاً مغاير لما عرفته عنه سابقاً ، وجدته قلب كبير دافئ الأركان .
لقد رحل قبل أن توقع على الورقة وتثبت أنها وجدت المتعة المفقودة ، فلقد أخفى أبوها موضوع الورقة إلى بعد سنة أو سنتان لكي يظهرها من جديد لها لتوقع ولكن لا أمل فلقد رحل .
إنها الآلام المدمرة في وقت صار يرش الملح على الجراح .
عادت لتلك الغرفة في منزل عمها ولكنها عادت وحيدة ، عادت إلى القيود ، وإلى التعاسة .
وبعد وفاة أبوها بأسبوع دخل عليها عمها ليملي عليها القائمة من جديد ، لا عمل ، لا سواقة للمركبة ، ولا خروج من المنزل ، وأخيراً وبعد أن انتهى من قائمته تهلل وجهه وقال : سوف أزوجكِ لا تخافي لن تظلي وحيدة طويلاً سوف أسترك ففرحي .
لم ترد عليه بل ظلت صامتة ومن ثم انفجرت باكية عندما خرج وأغلق الباب .
(14)
كانت حصة عذاري من ورثة أبوها أربع ملايين وثلاث بنايات مكونة من ثلاث طوابق ، ثروة كبيرة لكنها لم تهتم بها ولم تفرح بدخول كل ذلك تحت أملاكها الخاصة ، فما فائدة كل ذلك لقلب منهك محطم تدمر بين الحزن والهم والخوف .
تدهورت حالت عذاري جداً ونحل جسدها كثيراً وانتفخت عينيها من البكاء واسود محيطها من السهر .
لا مجال للهروب فذلك الكلب الشرس الذي وضعه عمها في فناء المنزل سوف يجعلها وجبة دسمة إن رآها تتسلل للهروب ، لهذا سلمت أمرها وبقيت مكانها .
وفي ذلك اليوم كانت تجلس في مجلس النساء الخاص بمنزل عمها مع بنات عمها واللواتي يصغرنها سناً بكثير ودخل وقتها عمها واستدعاها .
وما أن اختلى بها قال : أخيرك بين ثلاثة عمر والذي يبلغ من العمر ستون عاماً والعمر ليس شيئاً يعيب الرجل فهو يملك مؤسسة لتجارة الإسمنت وصاحب أموال طائلة لا تعد ولا تحسب أو ابن عمك سالم صحيح أنه متوسط الحال ولكنه رجل صاحب سمعة طيبة أو ابن الجيران والذي أراه غير مناسب ولكن أمه أزعجتني لهذا وضعت اسمه في القائمة فهؤلاء ليسوا جديرين أن نناسبهم .
قالت : دعني أفكر عدة أيام .
قال : لا قرري الآن .
ابتسمت ساخرة : ما أسرع الحياة عندك يا عمي ، اختار سالم .. قالتها بلهجة ساخرة ساخطة .
مبارك يا عذاري سوف نعقد القران يوم الخميس وسوف تمر عليك زوجتي لتخبريها باحتياجاتكِ لتحظرها لكِ فأنتِ لا زلتِ تحت المنع من الخروج .. ومن ثم رحل .
ضحكت عذاري بسخط وقالت : يا غبي .
فتح الباب وقال نعم هل قلتي غبي !!
صعقت عذاري ووضعت كفها على فمها وولت بالهروب لغرفتها وما أن وصلت لغرفتها وتأكدت أن عمها لا يتبعها انفجرت ضاحكة وما هي إلا لحظات إلا وأجهشت بالبكاء .
سالم ذلك الفتى الطائش والذي يقضي وقته في سباق المركبات وإزعاج السكان بهدير مركبته المزعج وبالبحث عن الأولاد الصغار والذين هم في سن المراهقة ، فهو شاذ جنسياً وفكرياً ، وهو بنظر عمها رجل لأن الناس تهابه وتحسب له ألف حساب بسبب صراعاته الدائمة معهم وعدم احترامه لأي شخص يقف أمامه أو يفكر بذلك ، فهذه الرجولة في نظره أن تكون قوياً تصرع الجميع دون النظر هل يفعل ذلك بالحق أم بالباطل ؟ ، ولكنه أفضل الخيارات المطروحة لها فالعجوز سكير عربيد وابن جارهم وان كان مستقيماً ومحترماً وباراً بوالديه لكنها وصلت الرسالة بأنه غير مرغوب به ولا مجال لاختياره .
لعلي أستطيع إصلاح سالم وهدايته للدرب الصحيح وسوف أحاول دام أن لا خيار لي غير الارتباط به ، وبما أنه يصغرني بثلاث سنوات وأنا أحمل كماً هائلاً من الثقافة فلعلي أستطيع تغييره .
انتهت عذاري من كتابة مذكراتها واستلقت للنوم بعد إغلاق المصابيح ، ومع أن الوقت مبكر للنوم لكن لا مجال للعودة للواقع فعالم الأحلام أروع وأجمل .
(15)
مرت الأيام سريعة وتزوجت عذاري سالم والذي أثث لها قسم كامل في منزل أبوه وكان عبارة عن مجلس وغرفة نوم وغرفة طعام ومطبخ وثلاث حمامات ، قسم كبير ومميز لفتاة حديثة الزواج ، ووضع فيه من أرقى الديكورات والأثاث عن طريق مساعدات من أبوه وأعمامه وإخوانه وقرض من بنك ربوي .
بدأت حياتهم هادئة ، يذهب للعمل في الصباح ويعود بعد الظهر بقليل وينام القيلولة والتي تنتهي بعد العصر ولا يوجد في أعماله كلمة صلاة فهي شيء لا وجود له في حياته ومن ثم يجلس معها إلى أن يحين وقت صلاة العشاء ومن ثم يخرج عند أصدقائه وفي بداية الأمر كان يعود في الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً في أول شهرين من الزواج أما بعدها صار يعود في الثانية أو الثالثة صباحاً .
طبعاً منعها من العمل لأنه يرى في عملها أنه ليس بالرجولة أن تعمل زوجته !!
لا جديد في حياتها غير ما يطرحه التلفاز ، وفي بداية الزواج كان هناك حاسب آلي موصول بخدمة الإنترنت وبسرعة عالية ولكن بعد مرور أسبوعان على الزواج قام سالم بقطع الخط وبيع الحاسب الآلي ، ولم يبدي لعذاري لماذا فعل ذلك ؟
وهي أيضاً لم تحاول أن تسأله لأنها تعرف الأسباب الحقيقية وراء تلك الفعلة التافهة .
وفي ذلك اليوم جلست كعادتها اليومية أمام التلفاز وإذا بسالم يدخل وهو مقطع الثوب والدم يملئ ما تبقى من ثوبه وملابسه الداخلية .
نظرت إليه ببرود لأنها تعرف السبب وقالت : اغتسل .. ومن ثم عادت لمتابعة فلم وثائقي كان يعرض على أحدى القنوات .
ولم تدري إلا بقبضة قوية تمسك بها من رقبتها بالخلف ولم تشعر بنفسها إلا وهي واقفة ، التفت بسرعة البرق بعد أن أفلتت من قبضته وإذا بصفعة تدوي على خدها الأيمن .
نظرت إلى سالم وابتسمت وفي عينيها الدمع يتقاتل لكي يملئ خديها ويخفف عليها حرارة ألم الصفعة .. شكراً .
لم يرد عليها وتوجه لغرفة النوم للاغتسال وتبديل ملابسه .
عادت لمكانها وكأن شيئاً لم يحدث ولكن هناك شيء يحدث في نفسها انه ثوران البركان إنها تغلي وتعتصر ألماً .. يكفي ضرباً يكفي إهانات .. ما هذه الحياة ؟
وبعد مدة عاد وجلس على الأريكة بعد أن أخذ جهاز تحكم التلفاز وبدل القناة دون استئذان .
لم تتكلم ولم تعارض ولم تقوى على الحراك والذهاب لغرفتها ، وجلست تطالع بعينيها التلفاز وقلبها في عالم آخر في عالم جميل وهادئ ، في مكان ما على هذه الأرض ، في هذا الوجود هناك مكان رائع هي هناك بقلبها الآن هناك المتعة المفقودة .
أين هي ؟ سألت نفسها ولكن نفسها فضلت الصمت ، ولن تجيب ولن ترد .
استأذنت بعد مدة من سالم للذهاب لغرفتها .
قال لها : وأنا أيضاً سوف أذهب معكِ أريدك في موضوع .. وابتسم ابتسامة تكرهها عذاري جداً .
إنها تعرف ماذا يريد هذا الذكر الشاذ الشهواني يريد أن يطارحها الفراش كالكلاب ثم يتركها بعد أن يقضي حاجته تتحسر شوقاً ولهفتاً لإطفاء لهيبها الذي أشعله ، ولكنها لم تفكر في يوم أن تطفئها بالزنا أو بالعادة السرية ، إنما اكتفت بالأحلام أن غداً سوف يكون أفضل .
(16)
في ذلك الظلام وفي مقبرة الأوهام وبين أشواك الأحزان حيث الآلام تعشش فوق غابات الهموم جلست وحيدة مكبلة اليدين والأرجل في حفرة عميقة أصرخ بأعلى صوتي لكن لم يجبني أحدا حتى صدى صوتي لم يعود علي ليسليني قليلاً ، في أي عصر أنا وفي أي عالم أنا وفي أي دمار أنا أجيبوني ، تركت صغيرة وعذبت كبيرة ،ما الجديد في حياتي غير يوم كئيب يمر علي مثل الذي قبله ، كان لدي أخ وكنت أظنه سوف يكون سندي ولكنه بين الأموات ولكن عندي أختان لكنهن مثلي في غياهب الظلم والقهر والاستعباد ، ربما تقولون أنني أبالغ وإن عصرنا ليس هناك من مظلومات فالمرأة أخذت حقوقها كاملة ، أقولها لكم وبملء فمي يا للأسف لقد اقتصر فكركم على محيطكم ولم تغوصوا لكي تعلموا الحقيقة . انتهت عذاري من كتابة مذكراتها ووضعتها في خزانتها الخاصة وأقفلتها ووضعت المفتاح في ثوبها فلا مجال لأن يطلع عليها أحد غيرها حتى سالم كم تقاتلت معه ولم تيأس إلى أن رضخ وأعلن لها عدم رغبته الإطلاع عليها .
ذهبت للنوم وما أن وضعت رأسها على الوسادة قام سالم والذي لم يكن نائماً وقال لماذا لم تحملين إلا الآن ؟
الأمر عند الله عز وجل . قالتها وهي تعطيه ظهرها .
قال : غداً نذهب للعيادة لإجراء الفحوصات لقد تأخرتِ جداً وأنا أريد أن أصير أباً وأصدقائي يعايروني بأني إلى الآن لم يأتي لي مولود .
ابتسمت وقالت في نفسها لن أحمل منك فلا أريد أن أدنس بطني بمولود منك ، ولكنه في نفس الوقت كان يخالجها شعور بالخوف ماذا لو عرف الحقيقة وأنني من يتعمد عدم الحمل باستخدامي موانع الحمل بشتى أنواعها ، سوف يقتلني .
(17)
في الصباح الباكر استأذن سالم من عمله وذهب مع عذاري للعيادة وقد نبه عليها أكثر من مرة أن تتصل به قبل أن تدخل على الطبيب لأنه يريد أن يكون معها .
جلست عذاري في قسم النساء وقلبها يرتجف من الخوف ما الحل ؟ إني أعلم أنه ليس فيني عيب وسوف ينكشف أمري ، ماذا أفعل وما هو الحل ؟
قتلتها الأفكار المخيفة ولكنها قالت وما الجديد ضرب إهانة حرمان لقد تعودت .
مرت إحدى الطبيبات من قرب عذاري ومن ثم عادت لتقف أمامها رفعت عذاري نظرها ببطء لتنظر ، إنها نوال صديقتها الرائعة من أيام المرحلة الإعدادية والتي بقيت على اتصال معها دائم إلى أن توفي أباها وانقطع الاتصال بينهما .
عذاري إنها دنيا صغيرة .
نعم يا نوال .
لم تستطع نوال قول أي شيء آخر غير أنها ظلت تنظر إلى عذاري التي كانت في يوم ما فاتنة ورائعة وجميلة جداً وصاحبة عينين براقتين ووجه صافي ناصع وجسد فتان وهي تراها الآن كالعجوز في لباسها وهيئتها وبعينين غطاها جهد الإرهاق والبكاء وأسود محيطها وبشفاه ذابلة وجسد نحيل .
نوال هل تنجدينِ قالتها متلهفة .
عادت نوال للواقع من جديد : ماذا نعم نعم يا عذاري أفديكِ بروحي .
أخبرتها القصة ولماذا هي هنا .
قالت سوف آخذ ملفكِ وأتصرف بالموضوع كاملاً لا تقلقي .
سرحت عذاري تنظر لنوال ما أروعها من صديقة وأطالت النظر .
ماذا بكِ يا عذاري . قطعت نوال حبل أفكار عذاري فجأة .
ابتسمت عذاري بطريقة شعرت منها نوال بشيء غامض ، بشيء مدمر ، بمشاكسة ومغامرة جديدة ، فتلك الابتسامة من عذاري تعرفها جيداً من أيام الدراسة .
هل تستطيعين إخراجي من هذا المكان دون أن يرانا أحد . قالتها بعد أن اقتربت من نوال وهمست لها .
وعدتكِ أني سوف أقف معكِ ولو على فقداني روحي هيا يا عذاري يكفيني ألماً وحزناً وأنا أراكِ وأنتي صديقة عمري وحبيبة قلبي بهذه الحالة .
كاد قلب عذاري أن ينطلق مغرداً من الفرحة معلناً إنها الحرية ورحلت في رحلة قصيرة لعالم الأحلام سوف أذهب للمحكمة وأطلب الطلاق وأقاضيهم على سوء معاملتهم و و و وعادت سريعاً لعالم الواقع بقبض نوال كف عذاري اليمني قائلة هيا يا عذاري .
أخرجت نوال عذاري من الباب الخلفي للعيادة والخاص بالموظفين والذي يؤدي إلى مواقف مركباتهم الخاصة ، وأعطت عذاري مفاتيح عربتها بعد أن أشارت لها بمكانها لتنظرها في المركبة بينما تأخذ رخصة اضطرارية وتعود لها .
مرت عشر دقائق بطيئة جداً وكأنها مليون سنة حسب تعبير عذاري فكل جزء من الثانية كانت ترقبه وما أطول الانتظار في نفس هذا الوقت المصيري .
أتت نوال مسرعة وركبت وقالت إنها الحرية .
صرخت عذاري الحرية واو ..
وانطلقت نوال بمركبتها .
سألتها عذاري بينما كانا في الطريق : ولكن إلى أين ؟
قالت عندي شقة قريبة من هنا وسوف تقطنين فيها إلى أن نجد حلاً .
شقة استنكرت عذاري .
قالت نوال : لقد أعطيت إياها من إدارة المستشفى وأبقيتها مغلقة ولا أستخدمها أبداً فأنا لا زلت عازبة وأسكن عندي أهلي ماذا دهاكِ يا عذاري لست منفلتة . وضحكت وهي تنظر لعذاري .
ابتسمت لها عذاري واطمأنت ورفعت على صوت المذياع لآخر صوت واسترخت .
وصلتا للشقة والتي كانت فخمة بكل ما تعنيه الكلمة .
أخبرتها نوال بغرفتها وطلبت منها أن تسترخي وتأخذ راحتها ، وأرادت عذاري الاستحمام ولكن لا ملابس عندها غير التي تلبسها ، وعدتها نوال بالذهاب لمنزل أهلها وإحضار ملابس مريحة لها وبعض الطعام .
وبعد عودة نوال توجهت لغرفة عذاري ووضعت الملابس على السرير وكانت عذاري لا تزال في الحمام فلقد ملئت حوض الاستحمام واسترخت فيه ، أخبرتها بأنها أحضرت الملابس وذهبت لإعداد سفرة الطعام .
وبعد أن انتهت عذاري من الاستحمام ولبست الملابس التي أحضرتها نوال استرخت فوق كرسي للاسترخاء وضع في الغرفة والتي كانت مؤثثة أثاث فخم وكأنها شقة مسكونة ولقد علمت من نوال أنها مفروشة من قبل مالك البناية وأن إدارة العيادة استأجرت البناية ووزعت شققها على الموظفين مقابل عائد مادي بسيط جداً.
وتذكرت كيف أنها رمت بهاتفها المتحرك بعد إغلاقه في القمامة وضحكت من تلك الفعلة ، وهي تفكر جال بها فكرها وصال إلى أن سألت نفسها على حان وقت البحث عن المتعة المفقودة ؟
أطلت نوال من الباب وقالت بعد أن وضعت يديها على خصرها : إني انتظركِ وأنتي هنا مسترخية هيا سوف يبرد الطعام .
نظرت إليها عذاري وابتسمت ودون أن تتحدث قامت واتجهت معها وما إن وصلت إلى باب الغرفة إلا ودفعت نوال مازحة والتي بادرتها بدفعة وتسابقتا إلى غرفة الطعام ، لقد تدافعن وكأنهن عادتا من جديد لمرحلة المراهقة .
جلستا يناولن الطعام وتكلمن كثيراً وضحكن كثيراً وبكيتا كثيراً أيضاً وطال ذلك الغداء لمدة ساعتان كاملتان .
وبعد الانتهاء من الغداء جلستا في المجلس ولعبتا لعبة كانتا يلعبانها أيام الإعدادية ، ما أروعها من سعادة .
وهناك وقف سالم في مركز الشرطة يحرر بلاغ عن هروب زوجته واختفائها .
(18)
بقيت عذاري لمدة خمس أيام في شقة نوال والتي كانت تمر عليها بين الفينة والفينة وأحيان نستأذن من عملها لكي تبقى وقت أطول معها وكانت تحظر مع أحد المحاميات الشابات والتي كانت صديقتها من أيام الدراسة وذلك لرفع قضية تكون هي الرابحة فيها .
وفي نهاية يوم الخميس حضرت نوال لعذاري وقالت لها : غداً يوم عطلة وبعده ما رأيكِ أن نذهب لمدينة أخرى ونتمشى ونغير هذا الجو الكئيب .
وافقت عذاري بدون تردد فهي من ذو زواجها إلى هروبها لم تخرج في رحلة سياحية ولقد أرهقت نفسها جداً مع صديقتها المحامية وهي بحاجة لاستراحة لأني يوم الأحد القادم سوف تتوجه للمحكمة .
ظلت نوال هادئة ولم تتكلم بالمزيد .
نظرت عذاري إليها تحدثي يا نوال إني أعرفكِ جيداً في عينيكِ كلام كثير .
قالت نوال : لا تفهميني غلط يا عذاري أنا من عائلة محترمة ومرموقة ومتربية على فضائل الأخلاق .
ضحكت عذاري بهدوء وقالت : ومن قال غير ذلك ؟
عذاري سوف يرافقنا في الرحلة صديقي في العمل . قالتها نوال بسرعة هائلة .
صعقت عذاري بل شل لسانها وكادت أن تغييب عن الوعي .
عذاري أفهميني إنه مجرد صديق أتسلى معه صدقيني إنه محترم و و و
كلام كثير لم تسمعه عذاري والتي شعرت أنها في خطر ، أنها في عالم مخيف يجب الهروب منه .
نوال الفتاة المستقيمة الملتزمة بدينها والتي كانت تتحاشى الحديث للجنس الآخر إلا في الأمور العامة أو التي تخص العمل ، الآن أصبح لها صديق على حسب قولها ، وتذهب معه لرحلات طويلة وتنام معه في نفس الفندق ولو في غرفة أخرى ولكن ما الذي يؤكد لي ذلك ، دام أنها ذهبت معه وخرجت معه فما الذي يمنع أن تطارحه نفس الفراش .
ظلت عذاري تائهة في دوامة أفكارها وصامتة .
ونوال تتحدث وتقنعها .
دفعت عذاري نوال بقوة وانطلقت نحو الباب لتخرج وهي لا تلبس غير رداء مطرز مخصص للمنزل لا عباءة ولا غطاء للرأس ، وتمكنت من الخروج بسرعة هائلة ولم تنتظر المصعد بل نزلت من السلالم ، ولم يكن عليها الكثير لتنزله ، فلقد كانت شقة نوال في الطابق الثالث .
ونوال خلفها تجري اسمعيني افهميني يا عذاري اسمعيني .
لن أسمع لن أفهم . تقولها في نفسها .
تخطت الشارع وما إن وصلت لنصفه إلا وصدمتها مركبة لم تكن مسرعة جداً ولكنها كانت بالسرعة التي جعلت عذاري في عالم آخر .
(19)
وقف شخص يتضح عليه أنه ذا هيبة وذا مكانة مرموقة في المجتمع يحمل في يده اليمني ورقة مطرزة بالورود الحمراء ويفوح منها رائحة الياسمين والذي كان يوضع فيها على الدوام ، فما أن يذبل إلا ويتم استبداله .
ظل واقفاً أمام قبر لمدة طويلة ومن ثم حفر حفرةً تكفي لإخفاء الورقة ومن ثم وضعها ودثرها بالتراب .
لقد كان غانم صديقي من ذو الطفولة ولقد كان يعلمني بكل أموره مهما صغرت أو كبرت أو زادت درجة سريتها وحساسيتها ولقد أعطاني هذه الورقة قبل وفاته بلحظات وقال لي إنها لعذاري .
عذاري يا صغيرتي المدثرة بالتراب في هذه الحفرة لقد منعت من إنقاذكِ ولقد حاولت لكن صدني عمكِ بشدة واستغل نفوذه ليسكتني ، عذاري يا غاليتي هل وجدتِ المتعة المفقودة ؟
كفكف دمعاته وهو يغادر للقبر الذي بجانبه وقال لقد أوصلت الأمانة يا غانم ولكن متأخراً فأعذرني وهذه ابنتك تنام بقربك فتستطيع أن تسألها إن استطعت .
ورحل ورحلت الأيام ولم يبقى غير شاهد على تلك القبور معلناً النهاية .
( من مذكرات عذاري )